Author

الشفافية والنزاهة .. وقواعد الحوكمة

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
تقر جميع قواعد الحوكمة حول العالم الشفافية والنزاهة كمفاهيم مترابطة، ولكن هذه المفاهيم تمثل صفات وليست أفعالا، وهذه الصفات في عالم المال والأعمال مكتسبة وليست أصيلة، والمعنى أن هناك عديدا من الأفعال والتصرفات التي من خلالها تتحقق الشفافية والنزاهة، لهذا يجب أن نتعامل مع هذين المفهومين من خلال قراءة وقياس الأفعال التي تحققهما وليس بمجرد الادعاء بها. وهذا الأمر الذي يجعلنا ننادي بمبدأ الشفافية ومبدأ النزاهة وليس بالمفهوم فقط، ذلك أنه لا يمكننا التحقق من أي منهما إلا من خلال العناصر التي تحققها. وما يدعوني اليوم لمناقشة هذه القضية، هي الظاهرة التي عمت اليوم من ادعاء الشفافية خاصة، فالجميع "سواء في القطاع الخاص أو العام"، يتحدث عنها وكأنها صفة لازمة لأعماله وتصرفاته، بينما هو بعيد كل البعد عن الأفعال التي تحقق الشفافية أو لنقل مبدأ الشفافية. ينص مبدأ الشفافية أنه ينبغي على المؤسسات أن تكون مفتوحة ومتاحة لمختلف أصحاب المصلحة بما في ذلك مستخدمو الخدمات أو المشترون والموردون والمساهمون والحكومة، حتى موظفيها. ولذلك، ينبغي أن تكون هنا تقارير مكتوبة وتبلغ بأسلوب مفتوح ومفهوم ومناسب للجمهور المستهدف. وعند توفير المعلومات، لابد من تحقيق توازن، بحيث يتم توفير كمية مناسبة من المعلومات من خلال قنوات الاتصال المناسبة لتلبية متطلبات الشفافية، في حين لا تصبح مرهقة للغاية بالنسبة للمؤسسة ولا المتلقي. وتنفيذ الممارسات الجيدة في مجال الشفافية يتطلب مهارات عليا في إعداد التقارير، فالمؤسسات تحتاج إلى إثبات أنها قد قامت بتنفيذ التزاماتها المعلنة، والمتطلبات والأولويات واستخدمت الموارد العامة على نحو فعال. وهي، بالتالي، تحتاج إلى الإبلاغ علنا على الأقل سنويا، بحيث يمكن لأصحاب المصلحة فهم وإصدار الأحكام حول عديد من القضايا، مثل كيف تعمل المؤسسة وعما إذا كانت هناك قيمة مقابل المال الذي ينفق عليها، وأن هناك إشرافا قويا على الموارد. ومن المهم أيضا أن عملية جمع المعلومات وتجميع التقرير تؤكد أن الإدارة العليا تمتلك هذه المعلومات. هذه القضية الأخيرة مهمة جدا، فالتقارير التي لا تعدها الإدارة العليا ولا تطلع عليها، لا تمثل عملا شفافا حقيقيا. وقد يقول قائل، كيف يمكن أن يحدث هذا؟ والإجابة تكمن في مشكلة عميقة في هياكل الحوكمة عندما ينفرد بالقرار شخص واحد، هنا يحدث أن الإدارة العليا قد لا تكون على علم كاف بما تحتويه التقارير وما ينشر على المواقع الإلكترونية، ولهذا فلا يمكن التعامل مع الشفافية كمبدأ دون أن نعتمد جميع قواعد الحوكمة الأساسية. هناك كثير من التصرفات الأخرى المهمة لتأكيد مبدأ الشفافية، من بينها إعداد معلومات الأداء والبيانات المالية وفقا لأسس مستقرة في الوقت المناسب، ومعدة على أساس مقارن بمؤسسات مثيلة، كما يجب أن تكون عرضة للمراجعة المستقلة. يأتي مبدأ النزاهة في عدة تصرفات على المؤسسة القيام بها حتى تثبت التزامها بالقيم الأخلاقية وسيادة القانون، ولهذا تنص المبادئ على أنه ينبغي على المؤسسات إثبات النزاهة من خلال تعزيز ثقافة العمل من أجل أصحاب المصلحة، وأن يكون ذلك هو المعيار في جميع الأوقات، وينبغي أن تستند تلك الثقافة إلى المبادئ الثابتة للسلوك في الحياة العامة، مثل الموضوعية، ونكران الذات، والصدق. كما ينبغي أن تكون القيادة العليا في المؤسسة أنموذجا يحتذى به (يشار إليه غالبا باسم "النغمة في القمة") من خلال الحفاظ على هذه القيم في طليعة تفكير أعضاء الإدارة العليا وسلوكهم واتخاذ القرارات، وغيرها من الإجراءات، كما ينبغي أن تكون القيم والمعايير الأخلاقية جزءا لا يتجزأ من المؤسسة وأن تشكل الأساس لجميع سياساتها وإجراءاتها، فضلا عن السلوك الشخصي لأعضاء الإدارة العليا أكثر من غيرهم من الموظفين، مع ضرورة وجود مدونة سلوك جميع منسوبي المؤسسة، وأن يتم تطوير هذه المدونة ومراجعتها سنويا ونشرها، وهذا يمكن أصحاب المصلحة من تقديم تغذية راجعة مهمة حول كيفية أداء القيادة، والأخلاق، والثقافة العامة في المؤسسة، ويمكن طلب ذلك رسميا منهم أو تلقيها من خلال التعليقات والشكاوى. لهذا، فإن نظام الشكاوى والبلاغات يعد جزءا حيويا من مبادئ النزاهة، بحيث يتمكن الأفراد أو الجماعات من القيام بتوجيه الانتباه الرسمي إلى ممارسات غير أخلاقية تنتهك قواعد السياسات الداخلية أو الخارجية، وأن تكفل المعالجة الصحيحة على وجه السرعة. ومن النزاهة أيضا، أن تثبت المؤسسة الالتزام القوي بسيادة القانون، فضلا عن الامتثال لجميع الأنظمة والقوانين واللوائح والتعليمات ذات الصلة، ويمكن محاسبة الأفراد على أساس الامتثال لذلك. لهذا كله، فإنه لا يكفي مجرد الادعاء بالشفافية والنزاهة، بل يجب أن تكون هذه المفاهيم ظاهرة من خلال تصرفات واضحة ودلالة قاطعة، وممارسات قائمة يمكن من خلالها القول بوجود هذه المفاهيم. إن المسألة لها بعد فلسفي عميق، فالوجود يستدعي منهجية كاملة لإثباته، وهذا يعتمد على الفهم العميق لمبادئ الحوكمة وكيف تم صياغتها ومعانيها العميقة، والرسائل التي تبعث بها.
إنشرها