Author

هل فقدنا أنفسنا أم استقلاليتنا؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد
تناول الفلاسفة والمفكرون مستقبل الإنسان ومكانته ودوره منذ بزوغ الثورة الصناعية قبل نحو قرنين من الزمن. وبينما كان العلماء يدهشون الدنيا بمخترعاتهم، هرع المفكرون إلى تقديم تفاسير لما قد تحدثه الثورة العلمية والصناعية التي أخذت في تغيير طريقة حياتنا رأسا على عقب. وهناك من الكتاب والمفكرين من استند إلى الخيال العلمي للتنبؤ بما يمكن أن يقع لنا أو نقع تحت وطأته والعلماء ينقلوننا من اختراع إلى آخر. وهناك من الكتاب والمفكرين من استند إلى الفلسفة لتفكيك أسلوب حياتنا والنظر في إن بقي لنا أي مقدار من الاستقلالية للتحكم في مصائرنا كبشر. ليس كل الخيال العلمي خيالا. هناك من الكتاب والمفكرين في هذا المضمار من قدم لنا أطرا ونظريات فكرية، وهو يسبح في بحر من الوهم والتخيل. وصار بعض الخيال العلمي اليوم جزءا من حياتنا من خلال المفاهيم التي قدمها. وكثير منا يلجأ إلى هذه المفاهيم كي يستوعب من نحن وأين موقعنا في عالم صار رهنا للثورة الخوارزمية وشركاتها العملاقة. وهنا تبرز بعض العناوين التي نلجأ إليها، في الأحاديث العادية أو في الكتابات الأكاديمية الرصينة، عندما نصطدم بواقع لا حول ولا قوة لنا أمامه. أظن أن أغلب قرائي الكرام لا بد أن طرقت أسماعهم مفردات مثل "فرانكشتاين" أو "مزرعة الحيوانات". هاتان الروايتان فيهما كثير من الخيال والوهم، إلا أنهما أسهمتا في تكوين مواقف على مستوى العالم من العلماء وعلمهم ومخترعاتهم من جهة والسلاطين ونظمهم ومؤسساتهم. وللفلاسفة والمفكرين المعاصرين نظريات تقترب كثيرا من المفاهيم التي ترد في "فرانكشتاين" و"مزرعة الحيوانات". في مستهل القرن العشرين ظهرت مدارس فكرية نقدية، وفي مقدمتها مدرسة فرانكفورت. أرسى أصحاب هذه المدرسة مفاهيم فلسفية جديدة لتقديم أطر ونظريات لمساعدتنا على فهم وتفسير واقعنا الاجتماعي الجديد، الذي أوجدته لنا التطورات المعرفية والتكنولوجية المذهلة، وكذلك الأساليب الجديدة في جمع الثروة وظهور مؤسسات وطبقات تتألف من عدد قليل من البشر ولكنها تتحكم في مصير الملايين. باختصار شديد، يقول لنا هؤلاء المفكرون والفلاسفة إن الدخول في أي حقبة صناعية جديدة، وسَن أروع الدساتير إنسانية واحتراما لحقوق الإنسان، لن يقفا حائلا أمام مسعى السلطات والمؤسسات في الاستحواذ علينا كبشر وعلى استقلاليتنا. والفرضية التي يقدمونها بشكل عام يسيرة الفهم والتفسير والتطبيق، مفادها بأنه كلما زاد تطورنا على المسار العلمي والتكنولوجي، زاد استغلال المؤسسات للسلطة والتحكم في رقاب الناس. لن آخذ المال ورأس المال مثالا، وسأتجنب الإعلام أيضا. وقد نعرج عليهما لاحقا لتوضيح هذه الفرضية النقدية. وليس قصدي تخويف القراء أو قذف الهلع في قلوبهم، ولكن لنأخذ كاميرات المراقبة، التي بفضل التكنولوجيات الرقمية والذكاء الاصطناعي صارت لها طاقات ربما لما كان في مقدور أي كاتب خيال علمي تصورها. هذه الكاميرات تلتقط أنفاسنا، وصار كثير من الناس في الغرب مثلا يسير في الشارع وهو يتحسب لكل خطوة يخطوها. وبينما هذه الكاميرات تراقبنا تقريبا أينما كنا، نرى أن المؤسسات والنظم التي تحكمنا تتباهى بأنها أقامت نظاما للمراقبة تستطيع بواسطته التحكم في كل من يسير في الشارع. والعلماء تراهم منكبين يلبون متطلبات السلطة بتطوير الكاميرات الرقمية جيلا بعد جيل، وكل جيل جديد له إمكانات تفوق أضعاف الذي يسبقه. وكأن هذا لم يكن كافيا؛ إذ صرنا اليوم تحت رحمة شركات رقمية جبارة، تنتج أجهزة ذكية عجيبة، وكل جيل منها يفوق أضعاف الذي يسبقه، والتعاون بين العلماء والسلطة في هذا المضمار على قدم وساق. نحن نستأنس بهذه الأجهزة وندفع غاليا لاقتنائها، وهي ذات فوائد جمة، بيد أننا قلما نتذكر أننا طوعا ولا إراديا نمنحها فسحة، ليس فقط لمراقبتنا وجمع المعلومات عنا، بل التحكم فينا أيضا. من خلال هذه الأجهزة الرقمية أو الممغنطة، تعرف هذه الشركات عنا ربما أكثر مما نعرفه عن أنفسنا. وتراقبنا بطريقة يخفق فيها أكثر المخبرين لأعتى الأجهزة الاستخبارية العالمية دهاء. وقلما نعرف أننا باقتنائنا هذه الأجهزة نسمح للشركات والمؤسسات السلطوية في بلدانها بمرافقتنا كما يرافقنا ظلنا. كل هذا ويقول العلماء وأصحاب السلطة إنهم يعملون لخدمتنا ومن أجلنا، ولكنهم في واقع الأمر يخدمون أنفسهم من خلال التحكم فينا والنيل من استقلاليتنا.
إنشرها