Author

شركات التأمين الصحي تدمر مفاهيم التأمين المؤسسي

|

ماذا يعني التأمين، يعني الحماية من المخاطر، ففي مواجهة المخاطر التي لا يمكن تحمل تكلفتها، أو المخاطر التي لا يمكن تجنبها، التأمين هو الحل. وهذه هي صناعة التأمين، وغير هذا الفهم يكون فوضى وتقصيرا، وهذه هو السبب الأساس في الطلب عليه ومبرره الاقتصادي، ولفهم المقصد نتساءل: ما هو الرشد الاقتصادي الذي يجعلني أخسر من ثروتي الحالية مبلغا؟ ما هو القسط التأميني لمواجهة احتمال قد يحدث وقد لا يحدث؟ المسألة كلها تدور حول شرطين معا أولهما حجم الخطر الذي قد يحدث في المستقبل، والثاني احتمالية وقوعه. فإذا كنت لا أستطيع تحمل الخطر إذا وقع كأن أخسر من ثروتي مبالغ كبيرة جدا أو أتعرض لقضايا قانونية، وأن احتمالات وقوعه كبيرة، فإنه من الرشد الاقتصادي أن أشترك مع الآخرين في مؤسسات تأمينية، حيث يتشارك الجميع في تحمل جزء يسير من قيمة الخطر الذي وقع فيه البعض منهم، ولهذا السبب وعن رضى نشترك جميعا في مؤسسات التأمين وندفع لها مبالغ طائلة سنويا قد لا تعود علينا بفائدة عن تلك السنوات لكنها بالتأكيد منحتنا كثيرا من الثقة بحياتنا وقراراتنا، كما أننا ساعدنا آخرين على تجاوز محنتهم التي كنا سنقع فيها وفقا لنظرية الاحتمالات. من هنا فقط يكون دفع قسط التأمين يمثل رشدا اقتصاديا، وتحض عليه كل نظريات إدارة المخاطر الحديثة. لكن إذا كان وقع الخطر لا يتسبب في خسارة كبيرة أو أن احتمال حدوثه نادر جدا فإننا بالطبع لن نشارك في مؤسسات تأمينية ذلك أنه يمكننا مواجهة مثل هذا الخطر فكيف لو حدث. وفقا لهذه التصورات يمكننا فهم لماذا ندفع أقساط التأمين على المركبات، ذلك أن حدوث خطر الحادث كبير ومحتمل جدا، وأن تكاليف الحوادث المرورية قد تكون كبيرة جدا، لهذا نتشارك سويا كمجتمع مدني متحضر في مؤسسات تأمين. مثل هذا يمكن فهمه في التأمين الصحي، إذ إننا مستعدون لدفع التأمين كلما كان قلقنا من حدوث اعتلالات في الصحة كبيرا أو في سنوات من العمر تجبرنا على مراجعة الطبيب دائما، وتقل رغبتنا في المشاركة كلما كنا في صحة أفضل أو في ريعان الشباب.
لكن هل هذه هي الحال في بيئة التأمين الصحي في المملكة؟ فالوضع مقلوب تماما، حيث إن هناك اليوم 1.4 مليون مواطن ممن بلغوا الـ 60 من أعمارهم (يشكلون 6.5 في المائة من المواطنين) وهم في أمس الحاجة إلى التأمين الصحي نظرا لاحتمالات تعرضهم لمشكلات صحية أكثر من غيرهم، ترفض شركات التأمين اشتراكهم، وهذا لا يمكن تفسيره إلا أنه غياب للمسؤولية وطنيا واجتماعيا، وعدم اكتراث بحياة الناس، مسؤولية تتحملها مؤسسة النقد ومجلس الضمان الصحي. فشركات التأمين تتنصل من واجبها وهي التي من المفترض أن تساعد المجتمع على مواجهة أخطار الحياة، وذلك ليس مجانا بل هو في مقابل دفعات يدفعها المشتركون الذين يتعاونون من أجل حماية بعضهم بعضا، بينما يظل دور شركات التأمين في إدارة هذه الأموال من أجل منح فرص أفضل وتقليل الدفعات التأمينية، فهي تستخدم أموال المودعين تستثمرها ويحقق الموظفون عوائد شهرية والمديرون التنفيذيون مكافآتهم السنوية مع مجلس الإدارة، كل ذلك من خلال استخدام أموال المشتركين. وعلى هذا فإن واجب شركات التأمين هو حماية المشتركين من المخاطر التي قد يتعرضون لها وفقا للبوليصة التي يتم اختيارها، أما أن تأتي شركات التأمين لترفض اشتراكات الناس لمجرد أنهم أكثر عرضة للخطر من غيرهم فإن في ذلك تدمير لكل مفاهيم المؤسسات التأمينية ولا يقبل مثل هذا أبدا، فكيف إذا كان التأمين من أجل الصحة والحياة الأفضل وكيف إذا كان المرفوض من الاشتراك هو من أفنى زهرة شبابه وصحته في خدمة الوطن، وكيف إذا كانوا قد دفعوا لسنوات طويلة مستحقات تأمينية عن طيب خاطر لم يستفيدوا منها أبدا لأنهم لم يكونوا معرضين لمخاطر المرض ويعلمون أن هناك من يستفيد، فلما جاء حقهم واجهتهم شركات التأمين بالجحود.
وفي دولة شابة مثل المملكة هناك 93.5 في المائة ممن هم دون سن الـ 60، فإن أي مؤسسة تأمينية ترغب في العمل هنا والاستفادة من حجم الأقساط المدفوعة في مقابل احتياجات صحية محدودة لهذه الفئة، وكان الأولى فعلا أن تركز الشركات التأمينية على الخدمة، لكن مع رفض الفئة السنية التي تجاوزت الـ 60 فإنه من الواضح تماما أن شركات التأمين قد خرجت تماما عن مسارها الصحيح، وأن الرغبة في تحقيق الأرباح أهم بكثير من تأمين حياة الناس من مخاطر المرض. وإذا أضفنا إلى كل هذا ارتفاع تكلفة الخدمات الصحية بسبب سوء إدارة شركات التأمين ومراقبتها للمستشفيات والأطباء حتى أصبح هناك تواطؤ بين شركات التأمين وبعض الأطباء، حيث لا يطلب الطبيب للمريض فحوصا وتحاليل حتى إن كانت ضرورية وذلك مقابل مبلغ مادي يحصل عليه الطبيب من شركة التأمين. وفي تلاعب من نوع آخر قد يطلب الطبيب فحوصا وأدوية لا داعي لها، وكلما زاد منها زادت النسبة التي تعطى له من المستشفى، وهناك ما هو أكثر من ذلك. ثلاث جهات حكومية لها علاقة بشركات التأمين، ومع ذلك لم تستطع هذه الجهات بقضها وقضيضها أن تفعل شيئا يذكر. بين هذه الجهات مجلس الضمان الصحي الذي لديه هو الآخر مشكلات أخرى استعصى حلها، فتراكمت عليه المشكلات ولا يخرج لها بحلول فأصبح وجود هذا المجلس لا فائدة منه!
قلنا هناك الكثير، لكن السؤال المهم: كيف استطاعت شركات التأمين الحصول على هذه القوة وعلى هذه السطوة؟!
وأصبح السؤال الذي يتبادر إلى ذهنك في كل مؤسسة صحية هو عن طريقة الدفع (نقدا أو تأمينا) ذلك أن القرار الصحي سيختلف بينهما. وهكذا يقع المريض بين فكي كماشة ويفاوض الجميع من أجل الحصول على رعاية طبية هو في أمس الحاجة إليها، وتتعمد شركات التأمين تأخير قبول حالات تتطلب موافقة عاجلة مثل العمليات الحرجة. كل هذا يدل بلا أدنى شك على أن وضع شركات التأمين في المملكة يحتاج إلى وقفة جادة جدا، وأن تباشر كل المؤسسات ذات العلاقة بدءا من مؤسسة النقد ووزارة الصحة وحتى المرور مراجعة حال شركات التأمين والأسعار والخدمات، وكل جهة معنية بالأمر تتحمل مسؤوليتها وواجبها المهني، وأن يكون لكل شخص يعيش على هذه الأرض الطيبة فرصة الحصول على التأمين متى ما كان في حاجة إليه.

إنشرها