ثقافة وفنون

في يوم «العربية» العالمي .. حراسة اللغة إيذان بموتها

في يوم «العربية» العالمي .. حراسة اللغة إيذان بموتها

تمثل اللغة العربية للإنسان العربي الهوية، والتاريخ، والمستقبل، ومستودع الفكر، ويرتبط بها ارتباطا وجوديا؛ فالعربي يبقى ببقاء اللغة العربية ويزول بزوالها. واللغة كائن حي ينمو ويكبر ويتغير، وإذا لم يتجدد فإنه يشيخ ويموت. وحياة اللغة تعني استعمالها وتداولها بين الناس. واللغة العربية رغما عنّا تتطور وتتغير من النواحي: الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية. والإمساك باللغة وحراستها والمحافظة على نقائها من التأثر باللغات الأخرى أو التغيّر ضرب من المستحيل، ومثالية لا يمكن أن تتحقق، بل إن ثبات اللغة على حال من الجمود ينافي طبيعة اللغات الحيّة التي تنمو وتختلط باللغات الأخرى وتتأثر بها وتؤثر فيها. ولم تتدهور اللغة العربية يوما إلا حين وقعت الأمة العربية تحت حكم سلطان لا ينطق بلسانها.

قلق الهُوية

إن خوفنا على اللغة العربية نابع من خوفنا على تلاشي الهوية العربية بين تلك المؤثرات القوية من اللغات الأخرى التي تحتضن الإنتاجين المعرفي والفكري، اللغات التي تولد فيها المخترعات وتكتسب أسماءها، ولكن المبالغة في حراسة اللغة لا تحميها بل تقتلها. إن تتبع عثرات الكتاب اللغوية والتطرف في المعيارية يحوّل الناطقين باللغة من الخوف عليها إلى الخوف منها، ثم إلى التعبير باللغات الأخرى للنجاة من سطوة النحويين وتتبعهم لعثرات الكتاب.
من المشكلات التي تعانيها اللغة العربية تلك النظرة السائدة التي تشكلت لدينا من المسلسلات والأفلام التاريخية التي تظهر فيها اللغة العربية في مستوى واحد من الاستعمال في كل المراحل التاريخية منذ أقدم نص عربي حتى أحدث نص عربي فصيح. وهي لغة مصوغة على ما وضعه النحويون من قواعد نحوية في القرن الثاني الهجري من وحي كلام العرب آنذاك. وبذلك نعتقد أن قواعد اللغة العربية القديمة ثابتة لم تتغير في كل تلك العصور، في حين أنها مرت بكثير من التغيرات حسب الزمان والمكان، بل أيضا حسب ظروف المقام؛ فما يتحدث به العربي في أحاديثه اليومية يختلف عن اللغة التي يستخدمها في الشعر والمناسبات الرسمية.

تطرف الحمائية

لقد كان هدف توحيد نظام اللغة العربية في عصور الإسلام الأولى مع اتساع رقعة الإسلام في بلاد لا تتكلم اللغة العربية غاية واحدة وهي فهم القرآن الكريم؛ فتوجهت الجهود لحماية اللغة العربية من اللحن، ولكن هذه الجهود تجاوزت وتطرفت إلى حد السعي إلى إعادة اللغة إلى معايير ما قبل الإسلام. إن حراسة اللغة من التطوّر ومن دخول الكلمات الجديدة إيذان بموتها.
واللغة العربية منذ العصور الأولى قبل الإسلام وهي تفتح صدرها لاستقبال الكلمات من كل اللغات المجاورة. لم تكن اللغة العربية في يوم من الأيام منعزلة عن اللغات أو الأمم المجاورة لها. وفي اللغة العربية من قبل الإسلام ألفاظ أجنبية نُقلت إلى العربية بالاقتراض، سواء جرت عليها أحكام التعريب أو لم تجرِ، وبقيت على وزنها الصرفي وأصواتها. وذلك لا يضير اللغة العربية ولا يخدش نقاءها؛ إذ طبيعة الاحتكاك اللغوي بسبب عوامل اقتصادية أو جغرافية أو سياسية، وعوامل تتحكم في طبيعة العلاقات الاجتماعية تفرض انتقال الكلمات من لغة إلى أخرى، بل إن القرآن الكريم يزخر بألفاظ ذات أصل أعجمي كتبت بحرف عربي واستقبلتها اللغة العربية بصدر رحب في أهم كتاب تكفّل بحفظ الدين واللغة. من هذه الكلمات (إستبرق، وزنجبيل، والصراط، والقسطاس، والفردوس، والمشكاة) هذه الألفاظ هي أعجمية في الأصل، عربية بالاستعمال والتعريب. وفي ذلك يقول الجواليقي: "إن هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل، فقال أولئك على الأصل، ثم لفظت به العرب بألسنتها، فعربته؛ فصار عربياً بتعريبها؛ فهي عربية في هذه الحال، أعجمية الأصل".

خوف يقتل

ينبغي أن نتخلص من هوس الخوف على اللغة العربية؛ لأن بعض الخوف يقتل ولا يحمي. والقرآن الكريم حمى الحرف العربي رسما وصوتا ودلالة وتركيبا. إن اللغة العربية هي التي تحمي هويتنا، وحقها علينا خدمتها؛ لنستخدمها. إن تنمية اللغات الحيّة تتحقق بإدخال الألفاظ والمصطلحات الجديدة، وبالتسامح في استقبال المؤثرات من الحياة المحيطة واللغات المجاورة. تعد اللغة الإنجليزية اليوم أهم لغة في العالم، وقد اكتسبت هذه الأهمية من ارتباطها بالدول العظمى اقتصاديا وسياسيا، إضافة إلى انفتاحها على اللغات الأخرى ومرونتها في التشكل حسب احتياج الناطقين بها. أخيرا؛ أضيف إلى قاموس أكسفورد 70 كلمة من اللغات الهندية، إضافة إلى كلمات أخرى من لغات مختلفة في آخر تحديث لقاموس أكسفورد، الذي يجرى أربع مرات كل عام؛ أي بمعدل مرة واحدة كل ثلاثة أشهر، ومع ذلك فإن متحدثي اللغة الإنجليزية لا ينتظرون اعتراف "أكسفورد" بالكلمات الجديدة حتى يستخدموها؛ وإنما يستخدمونها تلقائيا حيثما احتاجوا إليها في كلامهم؛ بل إن اللجان العلمية القائمة على تحرير قاموس أكسفورد تستقي مفرداتها من استخدام الناس للغة؛ لأن استخدام الناس لها هو المصدر الطبيعي الذي تأخذ منه المعاجم مفرداتها، إضافة إلى ذلك البيانات الإلكترونية التي تشكل نصوصا من الرسائل القصيرة المكتوبة. وعمل محرري قاموس أكسفورد لا ينتهي عند جمع المفردات، وإنما عليهم أن يراقبوا استخدام جميع المفردات الجديدة من كثب لمعرفة عدد المرات التي تستخدم فيها. وأحيانا يجب أن تكون الكلمة نشطة في الاستخدام لبضع سنوات حتى يُسمح بتضمينها في القاموس.

تعريب مرن

لا بد أن يراعى في تعريب الكلمات الأجنبية أن تكون الكلمة العربية أسهل نطقا وأوضح دلالة على المفهوم أو الشيء الذي تحيل إليه. ولكن إذا كانت الكلمة العربية المقابلة للكلمة الأجنبية ليست واضحة؛ لجأ الناس إلى استخدام المصطلح الأجنبي، وإذا شاع اللفظ المقترض بين الناس صار من الصعوبة بمكان استبدال اللفظ الأجنبي باللفظ العربي؛ لأنه لن يفهم كلامي أحد حين أقول: "أين جهازي اللوحي؟" وأنا أقصد "الآيباد". أو حين أقول: "سأذهب للخيالة" وأنا أقصد "السينما". أو حينما أقول "الناسوخ لا يعمل" وأنا أقصد "الفاكس". يفشل التعريب أحيانا؛ لأن الكلمة تدخل اللغة، وتستخدم، وتتحول أصواتها إلى مخارج مقاربة لأصوات العربية، وتشيع وتنتشر وتصقلها الألسنة، قبل أن يقترح اللغويون تعريبها. يشير محمد دياب في معجم الألفاظ الحديثة إلى أن محاولة القضاء على الكلمات الأعجمية بعد انتشارها، واستعمالها، محاولة غير ناجحة، وما ينبغي التفكير فيها. وبذلك يكون الاعتراف بها في المعجم اللغوي العربي أفضل من إنكارها. ومن هنا قد يتفوق الإعلام على اللغويين في المساهمة في نشر المصطلحات والأسماء الجديدة؛ لأن المصدر الحقيقي لقوانين أصوات اللغة ومفرداتها وتركيبها هو اللغة الطبيعية التي يستخدمها الناس. واللغة العربية الحية التي تمثل اللغة النموذجية اليوم هي تلك التي يستخدمها الناس الإعلام الرقمي والإعلام المؤسسي والإنتاج الأدبي والعلمي، بل ربما أخذ النحويون قواعد اللغة العربية النموذجية مستقبلا من إنتاج الصحافة والمدونات العربية؛ لأنها ستكون حينها هي اللغة العربية الفصيحة التي يستخدمها الكتاب والأدباء؛ فالاستعمال اللغوي يفرض نفسه بصورة تلقائية، وهو المصدر الذي تستخرج منه قوانين اللغة الصوتية والصرفية والنحوية.

بهاء "العربية"

ترتدي اللغة العربية في يومها العالمي ثوبا قشيبا جديدا، كل عام تزداد جمالا وبهاء، هي محمية طالما تتداولها الألسن في الأحاديث والعلوم والفنون، راسخةً باقيةً بتاريخها وجذورها في كتاب كريم، لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وفروعها تتمدد بلهجات مختلفة في كل العالم العربي، وتنمو وتزهر أجمل الألوان، وتنحني أغصانها بثمار المعاني المتجددة. تزداد العربية جمالا وهي تطوّع نفسها وتتشكل حسب احتياج الناس، وتعبّر عن أفكارهم واهتماماتهم بالحرف العربي الرقمي، والحرف العربي المرسوم. وإن خرجت عن بعض قوانين النحويين وعن معايير اللغويين؛ فاللغة العربية حيّة وحرّة تخدم أفكار الصغير والكبير، العالم والأميّ، الكاتب والمتحدّث. اللغة العربية بهفوات المتحدثين بها تخبرنا أنها حيّة تعيش بنا، وعلى ألسنتنا تنمو وتتطور، تخبرنا أنها الوطن الأكبر الذي يتسع لنا جميعا بصوابنا وخطئنا بعيدا عن سلطة اللغويين والنقاد؛ وإن كانت تسمح لهم دوما بأن يتدخلوا ويهذبوا منها ما يشاؤون حتى تظهر بأجمل ما تكون.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون