المشراق

«قلعة وادرين» و«ذلوف الوادرين» بين «وهم» و«أكذوبة»

«قلعة وادرين» و«ذلوف الوادرين» بين «وهم» و«أكذوبة»

«قلعة وادرين» و«ذلوف الوادرين» بين «وهم» و«أكذوبة»

«قلعة وادرين»، مقولة أصبحت مثلا رائجا بين الناس في أنحاء من الجزيرة العربية، وتقال لمن تتمنى أن يذهب بعيدا ولا يعود، غير مأسوف عليه. وانتشر قبل سنوات في بعض الصحف والقنوات الفضائية وغيرها أن المراد بالمقولة السابقة هي قلعة توجد في مدينة تبوك، وشاع هذا الكلام الذي لا أصل له بين الناس بشكل كبير، مثيرا للاستغراب. ثم جاء الدكتور علي الغبان فنفى ذلك تماما، مؤكدا أن قلعة وادرين توجد في البرتغال. يقول الدكتور الغبان: "يتردد على ألسنة عامة الناس تعبير قلعة وادرين أو روح بقلعة وادرين أو بقلايع وادرين، وهو تعبير قديم، يقصد به: فلتذهب إلى مكان بعيد لا رجعة منه، ويمثل دعوة تطلق على الشخص على سبيل القصد أو المزاح. وقد انتشر استخدام هذه العبارة في أنحاء عدة من الجزيرة العربية خلال الفترة العثمانية، وهي كثيرة الاستخدام في السعودية والكويت على نحو خاص، حتى أصبحت لفظا شعبيا دارجا على ألسنة الناس. وهذا اللفظ له أصل تاريخي، إذ كانت الدولة العثمانية تلجأ إلى نفي الأشخاص الذين يتعارض وجودهم مع مصالح العثمانيين بسبب قوة تأثير هؤلاء الأشخاص في مناطقهم. ولم يكن هذا الأسلوب مخصوصا بمنطقة دون غيرها من ولايات الدولة العثمانية ــ آنذاك ــ بل طبق على الجميع، وكثر استخدامه في الجزيرة العربية التي شهدت معارضة كبيرة تجاه العثمانيين، وخصوصا خلال فترة القرنين الـ18، والـ19، ومطلع القرن الـ20. وقد نفي حكام وأمراء من وسط الجزيرة، إلى بورصة وإسطنبول، كما نفي بعض أهالي نجد إلى مدينة قونيا وسط الأناضول، وبعض أهالي المدينة المنورة وأشرافها وعلمائها إلى مصر". ثم يضيف الدكتور الغبان: "وغالبية المنفيين من الجزيرة العربية كان يتم نقلهم إلى الولايات الأوروبية التي تحتلها الدولة العثمانية التي عرفت باسم الروملي، مثل سلانيك وجزيرة رودوس في اليونان، ويانيه في ألبانيا ونيش في صربيا الحالية وقلعة ويدين الواقعة في بلغاريا الحالية على نهر الدانوب. وقلعة ويدين هي التي تعنينا في هذا الموضوع، فقد نطقها العامة في جزيرة العرب بقلعة ودرين أو وادرين تخفيفا، وهي في الواقع أحد أبعد تلك المنافي".
ومن خلال المعلومات المفيدة التي قدمها الدكتور الغبان يقرر أن أصل مقولة قلعة وادرين نسبة إلى قلعة ويدين البرتغالية ، ومن الواضح أنه كتب كلامه السابق ردا على الشائعة التي انتشرت عن وجود القلعة في تبوك. وأنا أتفق معه في نفي وجود قلعة باسم وادرين في تبوك أو في أي مكان في العالم، فالأمر لا يعدو أن يكون محض كذبة اختلقها أحدهم فراجت بين الناس. أما المعلومات القيمة الأخرى التي أوردها الدكتور الغبان فليس لها علاقة بقلعة وادرين، فهذه المقولة مشتقة من كلمتين لهما معنى في لغة العرب وفي لهجتنا المحلية، ومثلها مقولة "ذلوف الوادرين"، وهو ما سأوضحه.

قلعة:
القلعة المقصودة في المقولة السابقة لا تعني المبنى الكبير، وإنما هي كلمة مأخوذة من جذرها الأصلي قلع، واشتق منها في لهجتنا مفردة "انقلع" أي اذهب بعيدا أو أغرب عن وجهي، ومثلها قلعة. واستخدام هذه المفردة شائعة في اللهجة النجدية وفي أنحاء أخرى من الجزيرة العربية. يقول الشاعر عبدالله بن ربيعة (ت 1273هـ):
مالي بدمع كن حدره بلابيل
والروح عن جسمي بقلعة مداها

أي أن روحه ذهبت بعيدا إلى أقصى مدى. ومثله يقول الشاعر الكويتي عبدالله الفرج (ت 1319هـ):
من شك ماهي من فراقه حزينه ومن العنا ما هي بقلع المدى غاد

ومثله قال الشاعر العنيزاوي محمد المطير (ت 1317هـ):
ترحل عن دار الهوان بديره
بها تنول المعزه لو بقلعة مداه

وقال الشاعر الأحسائي سليم بن عبدالحي:
عاد من عافك عفه واقلع مداه
مثل ما قال البريمي بالمثيل

وقال الشاعر عبدالكريم الأصقه (ت 1320هـ):
وياما رفعني بالرشا للمناعير
وياما ورا نجم الثريا قلعني
وقلعني أي أبعدني بعيدا عنه.
وقال الشاعر الكويتي صقر النصافي (ت 1372هـ):
لا بلاك الله بعاقه من مقادير الرفاقه
لو توريه الحماقه لين ربك يقلعه

يقلعه أي يبعده. وقال الشاعر الأمير محمد الأحمد السديري (ت 1399هـ):
قبلك جري ذاق العنا والغرابيل
وحتى الخفاجي قلعنه ولاعاد
قلعنه: أبعدنه.

وادرين:
أما كلمة وادرين فهي جمع وادر، أو ودر، وهو الشخص الكريه البغيض الذي تتمنى بعده. وهي مأخوذة من جذرها الأصلي ودر، وجاء في معاجم اللغة: ودره توديرا: إذا أوقعه في مهلكة. قال الأزهري: وسمعت غير واحد يقول للرجل إذا تجهم له ورده قبيحا: ودر وجهك عني: أي نحه وبعده. وودره الأمير، وأمر به أن يودر إذا غربه وطرده عن البلد. وما زلنا في لهجتنا المحلية نستخدم كلمة "تودر" بمعنى اذهب وأخرج، وتقال الكلمة عند الغضب واللوم، فهي للطرد كما في المعاجم. وهذا ما وعاه جيدا الشاعر سعد بن جدلان فقال:
المقبل تنفتح له دواليب القلوب
والمقفي قلعة الوادرين تودره

ومما سبق يتضح أن مقولة قلعة وادرين مشتقة من لفظتين، الأولى تعني الإبعاد، والثانية تعني الإبعاد والطرد. مثلها مثل قولنا قلعة مداه، وليس لهما علاقة بالقلاع والحصون لا من قريب ولا من بعيد.
وكان الأمر واضحا تماما عند الأوائل في منطقتنا وكبار السن، ولم يفهموه إلا بمثل ما ذكرت، يقول الشيخ محمد العبودي: "يقولون في الدعاء على الشخص بالبعد (في قلايع ودران). وقلايع: جمع قلعة وهي هنا الانتقال والبعد، والظاهر أنها ذات أصل فصيح. قال الزمخشري: من المجاز: قلع الأمير: عزل، وتقول: لم يزل يقلع الناس حتى قلع، والقوم على قلعة، أي على رحلة". وعن "ذلوف الوادرين" يقول الشيخ العبودي: "الوادرين جمع وادر أو ودر، وهو البغيض الذي يتمنى بعده وعدم القرب منه، وأن يغيب ولا يرجع. وهو مثل قديم الأصل قال الزمخشري: (ودرته توديرا، إذا غيبته، وسمعتهم يقولون: ودر فلان وودره الأمير، وأمر به أن يودر يريدون تسييره وتغريبه، وطرده عن البلد). فأنت ترى أن معنى "ذلوف الوادرين" هو الدعاء بالبعد الشديد على الشخص البغيض". وإضافة إلى ما ذكره الشيخ العبودي فإن ذلوف مأخوذة من ذلف بمعنى ذهب غير مأسوف عليه، أو اذلف وهي بمعنى ابتعد واغرب عن وجهي.
وختاما فإني أرجو أن يأخذ القراء الكرام بعين الحذر بعض ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي ومنتديات الشبكة العنكبوتية، فكثيرا ما رأيت أخبارا وقصصا وأشعارا ملفقة ليس لها أصل، وإنما اختلقها أحدهم لحاجة في نفسه، ونسبها لبعض الأوائل أو بعض الكتب.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من المشراق