ثقافة وفنون

«قصف الجبهة» .. ودور الجسد في بناء المعنى اللغوي

«قصف الجبهة» .. ودور الجسد في بناء المعنى اللغوي

لا يستطيع الإنسان أن يتحدث عن الأشياء أو المفاهيم خارج تجربته الحسية. ولا نستطيع بناء أي مفهوم إلا بالاعتماد على تجربتنا الفضائية باعتبارنا كائنات تحددنا الاتجاهات كالأعلى والأسفل، واليمين واليسار، والمركز والهامش بناء على موقع أجسادنا منه.. وعليه فإننا نبني المفاهيم والأفكار المجردة استنادا إلى خبراتنا الحسية التي اختبرناها وجرّبناها. عن طريق التعبيرات الاستعارية.

جسد اللغة

نحاول هنا الإجابة عن سؤال: العلاقة بين اللغة والجسد في إنتاج المعنى؟
ما علاقة شكل جسم الإنسان بإنتاج المعنى، موضع العينين في الجزء الأمامي من الرأس، ما علاقة هذا الشكل بالإدراك الحسي والوجود الفيزيائي ومن ثَمّ التعبير اللغوي؟ إن محاولة فهم اللغة وعلاقتها بالفكر والثقافة غير ممكنة بالنظر إلى اللغة كيانا منفصلا عن الإدراك البشري وعن الثقافة المحيطة بهذا الكائن.
يشترك جميع البشر في طبيعة الجهاز المعرفي وفي طبيعة تجسيد الإدراك. فالإنسان في كل قارات العالم يمتلك الجسد المنتصب القامة نفسه، وهذا الجسد تتحكم فيه قوانين الجاذبية الطبيعية. فالقواسم المشتركة بين لغات البشر والثقافات توحي بأن اللغات والمعاني متطابقة، في حين أن اللغات تختلف باختلاف البيئة والقيم وتاريخ المجتمع. وهذا ما يسميه إدوارد سابير وبنيامين لي وورف بالنسبية اللغوية. فاللغة بما تحتوي من مفردات ومن نماذج ورموز ليست فقط تسهل عملية توجيه التفكير بل تتحكم في طريقة التفكير أيضا.
والاستعارة في اللغة لا تخص ألفاظ اللغة فقط، وإنما البنية الذهنية للمعنى في العقل البشري. الاستعارة ليست علاقة تشابه بين شيئين بل هي تتأسس على تعالق مجالين من مجالات تجربتنا في الحياة. ونظامنا المفاهيمي العادي، الذي نفكر به ونتصرف بناء عليه، هو نظام مجازي في طبيعته.

تعبير محسوس

إننا حينما نعبر عن الصدق في القول أو العمل نتحدث بتعبيرات متعلقة بإحساسنا البصري بالأشياء من حولنا فنعبّر عنه بالشفافية والوضوح. وإذا تحدثنا عن الكذب نعبّر عنه بالإخفاء والطمس والتغييب والضبابية، والفساد الإداري نعبر عنه بتعبيرات متعلقة بإحساس الشم ونصف أفعال الفساد بصفات الطعام الفاسد أو الشيء المتعفن المعطوب النتن الذي تنبعث منه رائحة كريهة.
ولا نستطيع أن نعبّر عن الزمن إلا بتعبيرات حسيّة مرتبطة بوجود أجسادنا في الفضاء؛ فالزمن يأتي إلينا ويبتعد ماضيا عنّا كأنه شخص أو ماء نهر جارٍ. أو أن الزمن (مال) ننفقه أو نهدره!
نقول: "جاء موسم الحج"، " راحت الأيام"، "أنت تضيع وقتي."، "ما عندي وقت أعطيك إياه."، "شكرًا، لأني أخذت من وقتك". والجدال الكلامي لا نتكلم عنه إلا بتعبيرات مشتقة من التجربة الجسدية في (الحرب)
نقول: "لا يمكن أن تدافع عن فكرتك."، "أصابت كلماته الهدف."، "حجته دامغة". وتوازي الحجة الدامغة في تعبيرنا المعاصر: "في الجبهة" "قصف جبهتك" وفي لسان العرب: "دَمَغَه دَمْغاً: شَجّه حتى بَلَغَتِ الشجّةُ الدّماغ، واسمها الدامِغةُ. ويقال: دَمَغَه دَمْغاً إذا أَصاب دِماغَه فقتله. والدامغةُ التي انتهت إلى الدماغ، والتي تهشم الدماغ حتى لا تُبْقي شيئاً".

جدال "حربي"

فالحوارات اللغوية هجوم ودفاع وإصابات.. وكل تلك في جدال لغوي يتمثّل لنا في تصورات ذهنية مثل الحرب تماما. لكن ربما يكون الحوار لعبة تنافسية؛ حيث نفهم الحوار باعتباره لعبة أو رياضة تنافسية يوجد فيها فائز وخاسر واضح، ونهاية واضحة للعبة. وتبرز الاستعارة التفكير الاستراتيجي لهذه اللعبة، بالعمل الجماعي كما يحدث في بعض الحوارات على التواصل الشبكي التي تتحول أحيانا من لعبة إلى حرب مكونة من جيوش إلكترونية، ومتفرجين في الفضاء الإلكتروني، ومجد الفوز وعار الهزيمة. تؤخذ هذه الاستعارات على محمل الجد لأنها قد تتحول من صراعات حرب لغوية إلى حرب فيزيائية فعلية على أرض الواقع. أو ربما تكون هي في الأصل تجربة حرب حقيقية يتم اجترارها من التاريخ في صورة صراعات لفظية بتعبيرات استعارية مشتقة من مجال التجربة الحسية لهذه الحرب الحقيقية التي تقع بين الأجساد.
لكنّ الثقافات تختلف؛ إذ ليست كل اللغات تستعير في تعبيراتها عن المفاهيم الصور نفسها. يذكر لنا جورج لايكوف في كتابه الاستعارات التي نحيا بها مثالا متخيلا لتوضيح أثر الاستعارة في نسقنا التصوري فماذا لو تصورنا أن ثقافة ما تستخدم (الرقص) استعارة للجدال والحوار؟! حينها لن يكون هناك هجوم ودفاع؛ بل ستكون هناك البراعة والأناقة والخفّة والرشاقة، وستكون ألفاظنا في الجدال ألفاظ المعركة وألفاظهم في الجدال ألفاظ الرقص.

صنع المعنى

قد تتغير اللغة تحت تأثير الرغبة والشعور أو المعتقد أو التعليم، وذلك ما يمكن أن نسميه "خلق المعنى" الذي يسهم في خلق أفكار جديدة وصناعة ثقافة مختلفة.
فاللغة جزء من قدرتنا على صنع المعنى، والكلمات تسهم في صنع معنى للحياة. حيث اللغة هي الجزء المرئي من عملية صنع المعرفة. هل نستطيع تعديل المكونات التي تصنع المعنى في اللغة؟
وأخيرا؛ إذا أردنا أن نفهم اللغة البشرية حقا فلابد من التحول من الدراسة الشكلية الجافة للغة إلى الدراسة العميقة في المعنى.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون