ثقافة وفنون

العبودية الناعمة .. تكنولوجيا تقدم الغائب على الحاضر

العبودية الناعمة .. تكنولوجيا تقدم الغائب على الحاضر

يحدث أن يكون الواحد منا في جلسة، يتجاذب فيها أطراف الحديث أو يخوض في نقاش فكري أو سياسي عميق، وفجأة وبلا سابق إشعار أو أي تنبيه يتوقف عن الكلام، ليتجاوب مع إشارة ضوئية أو رنة خفيفة تنبعث من شاشة هاتفه الذكي على الطاولة؛ مُبديا إعجابه أو تعجبه مما تضمنته الرسالة أو حملته الصورة، وقد يزداد حماسة وانخراطا في الأمر بتفاعل نوعي مع متن الرسالة، وأحيانا أكثر من حيويته في الحديث أو النقاش مع رفاقه في المجلس، ممن تجاهلهم حتى صاروا في حكم العدم عنده في تلك اللحظات رغم وجودهم الفعلي المتعين ماديا.
وقع الكثير منا في مثل هذا الموقف أو كان حاضرا لحظة وقوعه، دون أن يعير ذلك أدنى اهتمام في الغالب الأعم، لأنه وببساطة كبيرة أضحى مشهدا يتكرر روتينيا في الحياة اليومية التي نعيشها. إنه المثال الواضح على بلوغنا درجة إدماج التكنولوجيا والعجز عن السيطرة، بطرق أقل ما توصف بها أنها ناعمة.
يعتبر البعض هذا القول مبالغا فيه قليلا، بدعوى أن مثل هذه الوقائع جزء من التكيف الضروري مع التطورات، الذي يتم بسرعة تتوافق والسرعة التي يوصف بها هذا العصر. وبالأخص حينما نتذكر إيجابيات ومزايا هذه التكنولوجيا التي لن ينكرها سوى جاحد، بعدما حولت العالم لا إلى قرية كما عهدنا القول بل إلى منزل صغير أضحى في متناولنا التنقل بأريحية فيه.
صحيح، لكن السؤال المعلق الذي رافق مسار تطور البشرية عند كل اختراع أو ابتكار جديد، لا يثيره أحد في وقتنا الراهن. وحتى إن حدث وطرح، فمصيره التجاهل لا محالة. إنه سؤال التكلفة؛ أي بأي ثمن؟ وما المقابل؟ وعلى حساب ماذا؟ وماذا نقدم لأجل ذلك؟
تجاهل يعود في جانب منه إلى الجواب الصادم الذي يقدم عن هذا السؤال، لارتباطه بماهية الإنسان كذات واعية مفكرة. ألسنا نعيش انقلابا جذريا؛ وسابقة في تاريخ العلاقات الإنسانية، حين يقدّم الغائب على الحاضر. وتنال صورة عادية أو تعليق عابر في عالم افتراضي، أهمية أكبر من نقاش فكري أو حديث ثقافي في حياة واقعية. وتنقلب أخبار الموت والمرض والحوادث والأحزان.. في وسائل التواصل الاجتماعي إلى مجرد حالات وأوضاع نسجل إعجابنا بها؛ هكذا بكل بساطة وبعيدا عن أي إحساس أو شعور، بلا زيادة ولا نقصان. وتصير الصداقة بلا معنى في عالمنا، حين تتحول إلى مجرد أرقام تعد في معظم صفحات الواحد منها بآلاف، وتفقد أي دلالة لها حين ترتبط زيادة أو نقصانا بضغطة زر واحدة.
هل نحن أمام انبثاق جديد لمفهوم "الغريب"، في تجاوز كلي للنسق الكلاسيكي الذي أطر التداول الفلسفي له في السابق، إذ يتجه اللحظة، بشكل من الأشكال، نحو إثبات مقولة الفيلسوفة الفرنسية جوليا كريستيفا "إن الغريب يسكننا على نحو غريب". ألا تسهم التكنولوجيا بمحمولاتها المتنوعة في تغريب الإنسان عن واقعه، وهي تحاصره مبقية له الحدود الدنيا من الاندماج؟
أليس الإنسان في عصرنا ضحية استبداد العالم الرقمي واستيلابه دون أن يدري؟ ألا تشكل الاكتشافات المتتالية تكبيلا لطاقات الفرد حتى إن زعمت أن هدفها تحريره؟ ألا يعرض المرء نفسه لوابل من الضغط النفسي والبدني حتى يكون قادرا على مواكبة ومتابعة المستحدث في العالم الافتراضي؟ أليس التطور الرقمي بمختلف صوره المتنوعة فخا اختار الأفراد السقوط فيه طواعية وعن طيب خاطر بلا أي إجبار أو إكراه؟
تعمد استراتيجية معظم وسائل التواصل الاجتماعي - بحسب أحد المختصين - على تقنية الوعاء بلا قعر، وتقوم على إتاحة معظم الخدمات على شاشة واحدة، ما عليك سوى أن تتبعها بشكل تلقائي إلى ما نهاية. بينما يقف أصحاب الشركات في الجهة الأخرى يتفرجون على ملايين، إن تكن مليارات من الأشخاص يتابع بعضهم بعضا، ويرد هذا على ذاك، وينشغل هذا بصفحة ذاك.. في وضع أشبه ما يكون بدجاج ينطلق نحو الحبوب دون أدنى تفكر.
في ذات السياق نذكر بتشبيه أحد الباحثين لأسلوب وتقنيات اشتغال وسائل التواصل الاجتماعي المنتشرة بكثرة في العالم الرقمي، بذاك الذي تستخدمه سلسلة المطاعم العالمية. ففي الوقت الذي تجذب فيه هذه الأخيرة زبنائها بالأذواق المختلفة وكثرة التوابل وتنوع النكهات بلا فائدة حقيقة للطعام على من يتناوله، تعمد إدارات شركات مؤسسات التواصل الاجتماعي إلى إغراء زبنائها بما يعرف بالمكافأة المتغيرة، التي يمثلها ها هنا ما قد يصلك في هذه الوسائل من تحديثات، مع فارق بسيط وجوهري في الآن ذاته يتعلق بانعدام توقيت محدد لذلك، ما يجعل صاحب الحساب مجبرا على المتابعة المستمرة لصفحته في انتظارها.
يبدو أن إريك شميت الرجل الثالث – رئيس مجلس الإدارة - وقائد التحولات الكبرى في إمبراطورية "جوجل" كان على حق حين قال؛ في كتابه المشترك مع جاريد كوهين الموسوم بعنوان "العصر الرقمي الجديد: إعادة تشكيل مستقبل الإنسان والأمم وعالم الاقتصاد" (2013)، "إن الإنترنيت أكبر تجربة فوضوية عرفها التاريخ".
وذلك لأن ما نراه اليوم أشبه ما يكون بتلك الشجرة التي تخفي وراءها غابة، لا أحد استطاع أن يحيط بها، فبالأحرى أن يحدد حجمها أو حتى طبيعة ونوعية ما قد تحمله من مخاطر على غد أو بعده على الكائن البشري، الذي اختار أن يزج بنفسه في متاهاتها التي أصبح أسيرها.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون