FINANCIAL TIMES

قطار الصين فائق السرعة يصطدم بحاجز المال

قطار الصين فائق السرعة يصطدم بحاجز المال

قطار الصين فائق السرعة يصطدم بحاجز المال

عندما دعا لي كيكيانج، رئيس الوزراء الصيني، 16 من القادة الأوروبيين إلى المشاركة في رحلة في قطار سريع عام 2015، كشفت تلك الرحلة وجود ما هو أكثر من مجرد حماس للعربات السريعة على الخطوط الحديدية. كانت أيضا عملية بيع كبرى نفذتها بكين لتكنولوجيا هندسية كانت تأمل أن تطلق العنان لطموح جيواستراتيجي كبير.
قدرة الصين على بناء سكك حديدة فائقة السرعة بشكل أرخص ثمنا بكثير من منافسيها جعلت التكنولوجيا تتخذ مكانة بارزة في مشروع "حزام واحد - طريق واحد"، مخطط بكين الطموح لكسب حلفاء دبلوماسيين وفتح الأسواق عبر أكثر من 65 بلدا في آسيا وأوروبا من خلال تمويل وبناء البنية التحتية.
موقف لي لم يترك أي مجال للشك لدى ضيوفه القادمين من أوروبا الوسطى والشرقية في الارتباط ما بين العلاقات الدبلوماسية السلسة وتأمين البنية الأساسية الصينية. بينما وصلت سرعة القطار الذي كانوا يستغلونه إلى 300 كيلو متر في الساعة في تلك الرحلة المنطلقة من سوتشو إلى شنغهاي، أخبرهم لي بأن بكين مستعدة لكي "تتشارك" تكنولوجيا السكك الحديدية الخاصة بها على اعتبار أن العلاقات مع المنطقة هي أشبه "بقطار (...) لا يسير بسرعة فقط، بل أيضا هو قطار مريح ومأمون"، وفقا لرواية رسمية. وتوقع أن تصبح تكنولوجيا السكك الحديدية "بطاقة الأعمال الذهبية" للصين.
لكن بعد مرور أقل من عامين على إلقاء تلك الكلمات المليئة بالأمل، توصل تحقيق أجرته "فاينانشيال تايمز" إلى أن طموحات الصين في الحصول على قطار فائق السرعة تخرج الآن عن مسارها. فبدلا من أن تشق بقوة مسارا لـ "حزام واحد ـ طريق واحد"، تم التخلي عن كثير من المشاريع أو تأجيلها. وعملت المشاريع الفاشلة، وبعضها قيد التنفيذ، على إثارة الشكوك والعداء العام وأدت إلى أكوام من الديون في بلدان كانت تأمل بكين في استمالتها للفكرة.
تقول آجاثا كراتز، الخبيرة في شؤون القطارات فائقة السرعة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، وهو مركز فكري: "في الأيام الأولى لمشروع حزام واحد طريق واحد، أولت الصين كثيرا من التركيز للقطار فائق السرعة وأشارت إليه في كل زيارة رسمية إلى الخارج تقريبا، بالإعلان عنه بوصفه أحد الصادرات الاستراتيجية، جنبا إلى جنب مع الطاقة النووية. لكن فعالية الدبلوماسية الخاصة بالقطار فائق السرعة منخفضة جدا في الواقع، وهذا أمر أخذ يدركه القادة الصينيون الآن".
أطلق الرئيس الصيني، تشي جينبينج، على مشروع "حزام واحد - طريق واحد" لقب "مشروع القرن"، لكن ربما تشير المتاعب التي واجهتها مشاريع السكك الحديدية الصينية عالية السرعة في الخارج إلى وجود تحد أمام الأسس الفكرية الخاصة بتلك الرؤية. الصين، بما لديها من عدد سكان هائل، ونظام شمولي، وقدرة كبيرة على تحمل الديون، وهي أمور يمكن أن تنجح في الجمهورية الشعبية، تختلف اختلافا كبيرا عن البلدان الأخرى وربما لا تكون مناسبة نهائيا لكثير من البلدان التي تحاول الصين أن تخطب ودها.
هذه النكسات ليست مقتصرة على الأقاليم المشمولة في مشروع حزام واحد طريق واحد، فالولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية لديهما أيضا مشاريع سكك حديدية آخذة في التراجع.
من حيث الحجم، تحتل السكة الحديدية مكانة بوصفها واحدة من أكبر مشاريع البنية التحتية في التاريخ. إجمالي القيمة المقدرة لـ 18 مشروعا صينيا خاصا بالسكك الحديدية عالية السرعة في الخارج - بما في ذلك أحد المشاريع المكتملة (الخط ما بين أنقرة وإسطنبول)، وخمسة مشاريع قيد التنفيذ، و12 مشروعا آخر تم الإعلان عنها- تصل إلى 143 مليار دولار، وفقا لدراسة أجراها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وهو مركز فكري مقره واشنطن، و"فاينانشيال تايمز". لوضع هذا الرقم ضمن السياق، تم الانتهاء من "مشروع مارشال" بقيادة الولايات المتحدة، الذي ساعد في إعادة إحياء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، بهبات أمريكية بلغت 13 مليار دولار، وهو مبلغ يعادل 130 مليار دولار اليوم.
عمل حجم التصميم الصيني الكبير على جعل كثير من العيوب التي تعانيها واضحة تماما. فالقيمة الإجمالية للمشاريع الملغاة في ليبيا والمكسيك وميانمار والولايات المتحدة وفنزويلا تصل، وفقا لتقديرات "فاينانشيال تايمز"، إلى 47.5 مليار دولار.
وهذا يعادل تقريبا ضعف القيمة الإجمالية الخاصة بالمشاريع الخمسة قيد التنفيذ في لاوس والسعودية وتركيا وإيران، البالغة 24.9 مليار دولار، حيث يوجد اثنان من الخطوط قيد الإنشاء، وفقا لـ "سي إس آي إس".
وجاءت بعض حالات الإلغاء نتيجة عوامل خارج نطاق سيطرة بكين. في ليبيا، مثلا، عمل اندلاع الحرب الأهلية في عام 2011 على رفع تكلفة مشروع بناء خط من طرابلس إلى سرت إلى 2.6 مليار دولار.
في حالات أخرى، يبدو أن المخططات تفككت وسط انتقادات موجهة للأسلوب الذي تنتهجه الصين. ففي المكسيك تم اتخاذ قرار في عام 2014 بإلغاء عقد قيمته 3.7 مليار دولار لضمان "الوضوح المطلق والشرعية والشفافية"، بحسب ما قال وزير النقل، جيراردو رويز إسبارزا.
وفي الولايات المتحدة، استند قرار "إكسبرس ويست" العام الماضي إلغاء خط من لوس أنجلوس إلى لاس فيجاس، جزئيا، إلى صعوبات خاصة بشركة السكك الحديدية الدولية في الصين، المرتبطة بالأداء بحسب المواعيد، كما قالت شركة إكسبرس ويست.
فنزويليا، المشروع الذي وصفه الرئيس الراحل، هوجو تشافيز، ذات مرة بأنه يجلب "الاشتراكية على سكة حديدية" إلى دول أمريكا اللاتينية، أصبح ما يسميه السكان المحليون "الفيل الأحمر" - وهو خط من المحطات والمسارات متداع ومتدهور الحال.
تقول كراتز: "تصطدم الصين بجدار عند تنفيذ جهودها التي تبذلها بهدف إنجاح مشروع القطار عالي السرعة في الخارج".

إظهار سلطة بكين

بالتالي لماذا تفشل الكثير من مشاريع السكك الحديدية المدعومة من قبل القوة المالية التي لا مثيل لها في الصين، ومن شركات الإنشاءات الضخمة والتكنولوجيا المتقدمة؟ تكشف الإجابات الكثير من أوجه القصور في رؤية بكين الإنمائية العالمية.
ثلاثة من المشاريع التي تعرضت للتحقيق من قبل "فاينانشيال تايمز" - أحدها في لاوس، والآخر في إندونيسيا والثالث ما بين صربيا وهنغاريا - تكشف وجود أوجه قصور وعدم تطابق يهدد بإفشال مشروع النفوذ الصيني ليس فقط في تلك البلدان، بل في غيرها أيضا.
القضية الأولى تتعلق بالقدرات المتباينة إلى حد كبير من حيث تكبد الديون واستيعابها. الثقل الاقتصادي الذي يميز الصين ونظامها الشمولي يسمحان للشركات التي تتمتع بضمانات حكومية فعالة أن تتحمل أعباء من الديون وأن تعمل في ظل تعرضها لخسارة دائمة. مثلا، تتحمل شركة السكك الحديدية في الصين، مشغل القطار المملوك للدولة والمستثمر في شبكات الطرق عالية السرعة في البلاد، ديونا تصل إلى 3.8 تريليون رنمينبي (558 مليار دولار)، وهو مبلغ أكبر بكثير من الديون الوطنية التي تتحملها اليونان. وهذا يعزى جزئيا إلى أن جزءا كبيرا مسافة الخط الحديدي عالي السرعة الذي يبلغ طوله 22 ألف كيلو متر في الصين، يعمل بخسارة، بحسب ما يقول مسؤولون.
ويوافق يو ويبينج، نائب رئيس شركة السكك الحديدية في الصين، شركة تصنيع مركبات السكك الحديدية عالية السرعة في الصين، على أن مسألة الربحية في مشاريع السكك الحديدية عالية السرعة أمر صحيح.
قال يو في مقابلة مع "فاينانشيال تايمز": "يتشكك الناس فيما إذا كان يمكن أن تكون مشاريع السكك الحديدية عالية السرعة مربحة، لكن الأرقام التي أعلنت عنها شركة السكة الحديدية في الصين في عام 2015 تبين تحقق الربحية في ستة من الخطوط".
يستطيع بلد بحجم الصين، مع تصنيفه الائتماني السيادي القوي واحتياطياته من العملات الأجنبية البالغة ثلاثة تريليونات دولار، دعم وتحمل عبء ضخم من الديون. لكن لاوس، مع ناتج محلي إجمالي وصل إلى 12.3 مليار دولار في عام 2015، أقل قدرة على استيعاب وتحمل تكلفة السكة الحديدية عالية السرعة التي من المتوقع أن تصل 5.8 مليار دولار- نحو نصف الناتج المحلي الإجمالي للبلد.
الخط الجاري إنشاؤه الآن يمتد بطول 417 كيلو مترا في لاوس، من الحدود الصينية إلى فياينتيان، العاصمة. وكانت الشكوك قد برزت حتى قبل الموافقة على إنشائه رسميا. ففي عام 2013 قال بنك التنمية الآسيوي، بحسب تقارير إعلامية ذكرت عبر الموقع الإلكتروني للبنك، إن مقترحات المشروع "غير مجدية ولا يمكن تحملها". وبدوره، حث البنك الدولي في العام نفسه على إجراء "مراجعة حذرة ودقيقة للأثار المترتبة على القدرة على تحمل الديون".
ووفقا لوثائق رسمية اطلعت عليها "فاينانشيال تايمز"، قدرت دراسة جدوى صينية أرسلت إلى فياينتيان في عام 2012 أن مشروع السكة الحديدية قد يولد معدل عائدات مالية داخلية تبلغ 4.6 في المائة فقط، ومثل هذا الهامش الضئيل يعني أن شركات السكك الحديدية الصينية كانت مترددة في الاستثمار في المشروع، حسبما أظهر تقرير أرسل إلى برلمان لاوس من قبل سومسافات لينجسافاد، نائب رئيس الوزراء آنذاك.
اقترحت بكين على لاوس أن تكون المستثمر الرئيسي في المشروع، بحيث تموله من خلال الاقتراض من بنك الصادرات والواردات في الصين، كما جاء في تقرير سومسافات. ولم تستجب حكومة لاوس لطلب من "فاينانشيال تايمز" للتعليق على تكلفة الخط الحديدي وأثره في مديونية البلاد.
ويرى منتقدو الخط الحديدي أن الصين عمقت من أهدافها على حساب لاوس. ويلاحظون أن الخط الحديدي يشكل حلقة وصل مهمة ضمن خطة كبيرة لإنشاء رابط عالي السرعة من مدينة كونمينج، جنوب غربي الصين، مرورا بتايلاند وماليزيا وحتى سنغافورة.
يقول موراي هيربرت، الخبير المختص في شؤون جنوب شرقي آسيا لدى "سي إس آي إس": "الخط الحديدي عالي السرعة عبر لاوس ليست له جدوى اقتصادية تذكر. من الواضح أن هدف الصين هو العثور على خط أرضي لنقل البضائع من غرب الصين إلى المناطق البرية في جنوب شرقي آسيا. لكن لأن عدد السكان في لاوس صغير واقتصادها صغير أيضا، فإن قدرا يسيرا من هذه التجارة سوف يظل في لاوس، ولن تشحن لاوس شيئا يذكر إلى الصين على الخط الحديدي المذكور".

من يدفع الفاتورة

ستيفن جروف، نائب رئيس بنك التنمية الآسيوي، يذكر نقطة مماثلة، على الرغم من أنه يرفض التعليق على السكة الحديدية في لاوس على وجه التحديد. يقول "المستفيدون الحقيقيون من تلك الاستثمارات هم بشكل خاص الذين يقعون على آخر طرفي الخط. على طول الطريق، هناك كثير من المجتمعات الفقيرة التي لا ترى فائدة مباشرة من تلك الاستثمارات. إذا كانت هناك فائدة اقتصادية قليلة للبلاد، ينبغي أن يطالبوا بشروط أفضل بكثير".
في حالة إندونيسيا، عدم التطابق لا يتعلق بالقدرة على تحمل الديون بقدر ما يتعلق الأنظمة السياسية. النظام الشمولي في الصين يضمن أن شركات السكك الحديدة المملوكة للدولة ستواجه عقبات قليلة في الحصول على تراخيص الأرض والبناء في سوقها المحلية.
لكن إندونيسيا ديمقراطية نابضة بالحياة ولديها قوانين صارمة بشأن حيازة الأراضي. فبعد أكثر من عام على الاحتفال في كانون الثاني (يناير) من عام 2016 بوضع حجر الأساس لخط جاكارتا ـ باندونج الذي تبلغ تكلفته 5.5 مليار دولار، لم يبدأ البناء بعد بشكل جدي بسبب الفشل في شراء الأراضي التي سيتم تشغيل المسارات عبرها، كما يقول مسؤولون.
ويضيف المسؤولون أن جاكارتا عاكفة على إعادة حساب تكلفة المشروع الذي يبلغ طوله 142 كيلو مترا، وسط توقعات بتجاوزات كبيرة في التكلفة. لكن مسؤولا كبيرا في الحكومة الإندونيسية، طلب عدم الكشف عن هويته، يقول إن جوكو ويدودو، رئيس إندونيسيا، ملتزم بالمخطط.
ويُضيف المسؤول: "أخبرنا الصينيون أن مصيرنا مرتبط معاً بهذا الشأن. إذا لم يتمكنوا من متابعة الأمر، سيُدمّرون سمعتهم في كثير من البلدان التي يُريدون الاستثمار فيها. إذا لم يتمكن رئيسنا من إحراز تقدم جيد بهذا الشأن بحلول موعد الانتخابات في عام 2019، سيكون الأمر سيئا جداً أيضاً".
وتفاقمت المشاكل بسبب شكوك أوسع بشأن الاستثمار الصيني، كما تقول تشو جونج، المحللة في كلية إس راجاراتنام للدراسات الدولية في سنغافورة. تقول إن الشركات المملوكة للدولة الصينية، المبنية على صفقات سرية مع المسؤولين في الحكومة، ليست معتادة على مستويات عدم القدرة على التنبؤ السياسي والتدقيق التي تواجهه في إندونيسيا. وتتساءل: "إلى أي مدى هي منفتحة للجمهور في بلد حيث الرأي العام يمكن أن يؤثر في مصير الاستثمار؟".
في أوروبا، تكنولوجيا السكك الحديدية عالية السرعة التي أشاد بها لي خلال رحلته في القطار في عام 2015 اصطدمت بحواجز إدارية. بعيداً عن تأكيد توقعات رئيس الوزراء أنها قد تعرض "القدرة الإنتاجية الملائمة، والتكنولوجيا المتقدمة، وكفاءة الإنفاق" في الصين، أثار مشروع السكة الحديدية عالية السرعة الصينية في أوروبا شكوكاً رسمية.وقال مسؤولون أوروبيون إن المفوضية الأوروبية فتحت تحقيقا في الخط الذي يبلغ طوله 350 كيلو مترا، المقرر أن يعمل بين العاصمة الصربية، بلغراد، وبودابست عاصمة هنغاريا. وأضاف المسؤولون أن التحقيق سيعمل على تقييم الإمكانية المالية للمشروع الذي تبلغ قيمته 2.89 مليار دولار وينظر فيما إذا كانت قد انتهك قوانين الاتحاد الأوروبي التي تنص على أنه يجب تقديم مناقصات عامة لمشاريع النقل الكبيرة.
ما أحرزه التحقيق من تقدم غير معروف، لكن أي انتكاسة إدارية للخط بين صربيا وهنغاريا سوف يتردد صداها أبعد من "حزام واحد ـ طريق واحد" الذي وصف بأنه دليل على الفوائد التي يُمكن أن يجلبها الانخراط الدبلوماسي الواسع مع الصين.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES