FINANCIAL TIMES

طاعون الفساد .. صيد ثمين يعلق في شباك العدالة البرازيلية

طاعون الفساد .. صيد ثمين يعلق في شباك العدالة البرازيلية

طاعون الفساد .. صيد ثمين يعلق في شباك العدالة البرازيلية

عندما دخل المشرع البرازيلي رودريجو لوريس مطعم البيتزا "كاميلو" في ساو باولو أواخر الشهر الماضي، لم يكن يعلم أنه كان على وشك إشعال أزمة حادة جدا لدرجة أنها يمكن أن تتسبب في سقوط ميشيل تامر، رئيس البلاد.
تحت مراقبة من الشرطة الفيدرالية التي تحقق في الفساد السياسي في البرازيل، استخدم لوريس دورة المياه قبل ذهابه إلى مكان اصطفاف السيارات حيث قابل أحد المعارف الذي يقود سيارة رياضية من طراز مازيراتي - يدعى ريكاردو سيود، وهو مسؤول تنفيذي في "جيه بي إس"، أكبر شركة لتعليب اللحوم في العالم.
شوهد لوريس بعد ذلك وهو يمشي بعيدا يجر معه حقيبة على عجلات تحوي نصف مليون ريال برازيلي "153 ألف دولار أمريكي" - الدفعة الأولى من رشوة يزعم أنها تقدر بـ 15 مليون ريال من "جيه بي إس" مقدمة إليه وإلى تامر، بحسب وثائق تم تقديمها إلى المحكمة العليا. ومن دون علم لوريس، كان سيود يتعاون مع الشرطة في واحدة من أكبر عمليات المساومة القضائية في تاريخ البرازيل، تشمل سبعة من كبار المسؤولين التنفيذيين في "جيه بي إس" في مقرها في ساو باولو والشركة القابضة "جيه آند إف".
يقول أحد المديرين في "كاميلو"، رفض الكشف عن هويته، "إنه أمر لا يصدق، كان هؤلاء الأشخاص ينفذون أعمالهم القذرة هنا (...) إنهم أناس وقحون". وقال "إن الشرطة أخبرته قبل الحادثة أنهم يريدون استخدام كاميرات الأمن المتوافرة لديه للقبض على شخص تحوم حوله شبهات أخلاقية".
صفقة "جيه بي إس" القانونية التي أعلنت عنها المحكمة العليا الأسبوع الماضي، عملت على إرسال حكومة يمين الوسط برئاسة تامر ـ الذي ثبت أنه زعيم كفء رغم انخفاض شعبيته ـ إلى وضع يرى كثير من المحللين أنه دوامة موت: انهارت الأسواق لأن المستثمرين الذين آمنوا بوعود الرئيس تامر بتحقيق برنامج طموح للإصلاح لإنقاذ أكبر اقتصاد في أمريكا اللاتينية من أسوأ حالة ركود أصابته، باعوا مقتنياتهم.
ووضعت وكالات التصنيف الائتماني سندات الشركات والسندات السيادية موضع المراقبة، مع احتمال تخفيض مرتبتها الائتمانية. وانخفضت أسهم "جيه بي إس"، التي تعد واحدة من أكبر الشركات المتعددة الجنسيات في البلاد. ويوم الأربعاء الماضي فضّ الجيش احتجاجات مناهضة للرئيس تامر في العاصمة البرازيلية.
وضربت الفضيحة التي تورط فيها الرئيس وشركة جيه بي إس جوهر نظام المحسوبية السياسية ومحاباة الشركات التي عملت على إفساد محاولات البلاد للاستفادة من إمكاناتها الكاملة.
بالنسبة إلى المدعين العامين المستقلين والمتسمين بالجرأة بشكل متزايد في البرازيل، والشرطة الاتحادية والقضاة، يمثل الاعتراف بالذنب من قبل "جيه بي إس" انتصارا جديدا في معركتهم التي بدأت منذ ثلاث سنوات التي تهدف للتصدي إلى الفساد المستشري. ويركز التحقيق الذي بدأ بالتمحيص في "بتروبراس"، شركة النفط المملوكة للدولة، ومجموعة أودبريخت، أكبر شركة للبناء والإنشاءات في أمريكا الجنوبية، على شركة جيه بي إس، التي تعتبر واحدة من الشركات الرئيسية المستفيدة من قروض ضخمة مدعومة من الحكومة.
مع ذلك، تبقى الأسئلة التي لم تتم الإجابة عنها تتضمن ما إذا كانت النتائج المذهلة الناجمة عن تلك التحقيقات، التي أدت إلى تورط مجموعة كبيرة من النخب السياسية، سينتهي بها الحال إلى تفكيك العلاقة الفاسدة بين الحكومة والشركات الكبرى، أو ما إذا كانت ستبقي على الحوافز التي تؤدي إلى تصاعد نظام الرشا في مكانها دون تغيير.
قال سيود، في إفادته أمام المدعين، "إن شركة جيه بي إس أنفقت ما يقارب 600 مليون ريال على رشا مقدمة إلى 1829 مرشحا يمثلون 28 حزبا في مختلف الانتخابات. ومن بين هؤلاء المرشحين تم انتخاب 167 أعضاء في مجلس النواب، و28 في مجلس الشيوخ و16 حكاما للولايات. وإلى جانب تامر، يجري التحقيق مع جميع رؤساء البرازيل الخمسة الأحياء السابقين في تهم تتعلق بالفساد".
باولو سوتيرو، مدير معهد البرازيل التابع لمركز وودرو ويلسون الدولي للباحثين، يصف النظام السياسي في البرازيل الذي يبيع فيه أعضاء الكونجرس خدماتهم لأعلى مزايد، "إنه نظام يقوم على الفساد. إنه نظام يخدم المصالح الذاتية فقط، ولا علاقة له بمصالح البلد، إنه نظام منهَك يجب القضاء عليه".

الأخوان باتيستا

هناك عدد قليل من المجموعات التي تمكنت من تلخيص هذا النظام بشكل أفضل من "جيه بي إس". بعد تأسيسها جزارة صغيرة تقدم خدماتها لأطقم العاملين أثناء فترة البناء في برازيليا في الخمسينيات، ازدهرت "جيه بي إس" في فترة حكم حزب العمال اليساري التي امتدت 13 عاما. وكان لويز إيناسيو لولا داسيلفا، الرئيس البرازيلي في الفترة بين عامي 2003 و2010، حريصا على بناء شركات وطنية كبرى على غرار الشركات المملوكة للدولة في الصين، أو الشركات الكبيرة الملوكة لعائلات في كوريا الجنوبية.
وبعد أن بدأ العمل في عام 2007، استثمر "بندس"، بنك التنمية في البرازيل، ثمانية مليارات ريال في أسهم شركة جيه بي إس، بحيث حصل على حصة نسبتها 21.3 في المائة. وقدم إلى المجموعة أيضا بشكل مباشر وغير مباشر مبالغ يقارب مجموعها أربعة مليارات ريال على شكل قروض مدعومة جزئيا. ونمت الإيرادات في شركة جيه بي إس من أربعة مليارات ريال في عام 2007 إلى 170 مليار ريال العام الماضي. الأخوان اللذان يديران الشركة، جويسلي وويسلي باتيستا، أدرجاها في البورصة عام 2007. ومن ثم دخلا في طفرة من عمليات الاستحواذ. وتنوعت الشركة القابضة التي يملكانها، "جيه آند إف"، لتدخل في إنتاج الورق ولب الورق واشترت حصة مسيطرة في "ألبارجاتاس"، الشركة التي تصنع صنادل هافاياناس البرازيلية.
لم تكن "جيه بي إس" الشركة الكبرى الوحيدة التي تتمتع بالدعم الكبير المقدم من بنك بندس، الذي توسع نطاق محفظته من القروض الميسرة بأسعار فائدة مدعومة خمس مرات تقريبا على مدى السنوات العشر الماضية، لتصل إلى 876 مليار ريال في العام الماضي. الشركات الأخرى شملت كلا من أودبريخت وبتروبراس وإمبراير، وهذه الأخيرة ثالث أكبر شركة لصناعة الطائرات التجارية في العالم.
يقول ماركوس ليزبوا، رئيس "إنسبير"، وهي جامعة للأعمال "قدمت الحكومة البرازيلية مبالغ كبيرة للإعانات "عبر قروض بندس" على مدى السنوات السبع الماضية بقدر ما قدمت الولايات المتحدة من قروض لأوروبا بموجب خطة مارشال".
يقول سيرجيو لازاريني، وهو مؤلف كتب تتحدث عن رأسمالية المحسوبية في البرازيل، "إن الأحزاب السياسية في الائتلاف الحكومي يمكنها التأثير في القرارات التي يتخذها كل من بنك بندس، وبتروبراس، والشركات المملوكة للدولة، وصناديق المعاشات التقاعدية في القطاع العام.. وهلم جرا".
ويضيف "شركات القطاع الخاص تقول: أرغب المشاركة في هذا، أود الحصول على تلك الأموال وتلك الفرص، لذلك سأحاول استراتيجيا أن أكون في صف الحكومة. إن كنت تتوخى مزيدا من الدقة في أعمال "بندس" وبدأت بإغلاق الصنبور الذي يصب المال، تكون قد قضيت في الواقع على بعض أجزاء هذه المشكلة".

ظهور التداعيات

لكن المدى الحقيقي لنظام المحسوبية في البرازيل بدأ في الظهور فقط بعد أن واجهت خليفة لولا دا سيلفا وتلميذته، الرئيسة السابقة ديلما روسيف، موجة غير مسبوقة من الاحتجاجات في عام 2013 أثارها الإنفاق الحكومي على ملاعب كرة القدم استعدادا لمونديال 2014. وردت روسيف من خلال إصلاحات لمكافحة الفساد، بما في ذلك تعزيز قدرة المدعين العامين على تقديم صفقات للمشتبه فيهم تخفف العقوبة مقابل الاعتراف بالذنب.
في عام 2014 بدأت الشرطة الاتحادية والنيابة العامة باستخدام تلك الصلاحيات فيما أصبح يعرف باسم "لافا جاتو" أو "غسيل السيارات"، وهو تحقيق في رشا مقدمة من شركات إنشاء لمسؤولين تنفيذيين سابقين في شركة بتروبراس وإلى سياسيين مقابل الحصول على عقود. يلي ذلك تحقيق في "أودبريخت" التي وافقت في أواخر العام الماضي على ما أصبح آنذاك أكبر مبلغ يدفع في قضية فساد، بلغ حجمه 3.5 مليار دولار، بعد أن اعترفت بتقديم رشا مقدارها 788 مليون دولار في 12 بلدا.
يقول أوسكار فيلينا، مدير كلية القانون في معهد "إف جي في ديريتو إس بي" في ساو باولو "إن هذا التشريع خول في الواقع مكتب المدعي العام استخدام أداة جديدة فاعلة للغاية لمكافحة الجريمة المنظمة".
وأدى اعتراف مجموعة أودبريخت بالذنب إلى توريط جزء كبير من أعضاء الكونجرس وثلث مجلس وزراء حكومة تامر، الذي تولى السلطة العام الماضي بعد توجيه اتهام بالتقصير وعزل الرئيسة روسيف بسبب انتهاكات متعلقة بالميزانية، وسط استياء شعبي واسع النطاق يتعلق بالفساد وتراجع الاقتصاد.
في الوقت نفسه، بدأت التحقيقات المتفرعة عن فضيحة "غسل السيارات"، مثل مشروع جرين فيلد، وهو تحقيق في ممارسات فساد مزعومة من قبل شركات معاشات تقاعدية تابعة للدولة، في الإيقاع بشركات أخرى، بما فيها "جيه بي إس". كما اتهمت شركة تعليب اللحوم أيضا بدفع رشا لمفتشي الصحة في فضيحة وقعت في وقت سابق من هذا العام تعرف باسم "اللحوم الرديئة" كارني فراكا. بعد أن بدأت التحقيقات بتشديد الخناق، قرر الأخوان باتيستا الرهان على كل شيء من خلال إبرام صفقة مع ممثلي النائب العام والوعد بتقديم أكبر جائزة من بين جميع الجوائز - الرئيس تامر.
في وقت متأخر من ليل السابع من آذار (مارس) هذا العام، نصب جويسلي باتيستا المصيدة. توجه بسيارته إلى مقر إقامة الرئيس تامر الرسمي، قصر جابورو، لعقد اجتماع تبادل فيه الاثنان الحديث لمدة 30 دقيقة، وفقا لوثائق المحكمة.
تحدث رجل الأعمال عن ادعاءات بأنه قدم رشا للجميع، بدءا من ممثلي النائب العام وصولا إلى القضاة وإلى متحدث رسمي سابق باسم مجلس النواب، وفقا لتسجيل صوتي للمحادثة رتبه باتيستا. ظهر تامر وهو يتمتم بكلمات تشجيعية قبل أن يوصي بأن يتولى عضو مجلس النواب، لوريس، معالجة مشكلات الأعمال التي يعانيها باتيستا، بحسب وثائق المحكمة.
قابل باتيستا لوريس بعد ستة أيام ووعده بأن يتلقى هو وتامر رشوة قيمتها 15 مليون ريال، إذا تمكنا من حل مشكلة تتعلق بصفقة غاز خاصة بإحدى محطات الكهرباء التابعة لشركة جيه بي إس.
نفى تامر ارتكابه أي خطأ ورد في المحادثة وتعهد بعدم الاستقالة من منصبه. ويدعي محاموه أن شريط التسجيل تم تعديله بشكل انتقائي لتوريطه. لكن محللين يقولون "إن برنامجه الإصلاحي الذي يهدف إلى استعادة الأموال العامة من خلال برنامج إصلاح لنظام المعاشات التقاعدية الذي يتسم بسخاء مفرط، سيتم تجميده في الوقت الذي لا يزال فيه على سدة الرئاسة".
وفي الوقت الذي تنتشر فيه الشائعات المتعلقة بالشخص الذي يمكن أن يأخذ مكانه والآلية لتنفيذ ذلك، يقول المحللون "إن فضيحة غسل السيارات" تعمل على تسريع انهيار الحرس السياسي القديم الذي حكم البرازيل منذ نهاية حقبة الدكتاتورية العسكرية قبل أكثر من 30 عاما".
سيرجيو فاوستو، من مؤسسة فونداكاو فيرناندو هنريك كاردوسو، يقول "على مر السنين أصبحت الأحزاب السياسية متصلبة. الآن ستفتح فضيحة غسل السيارات آفاقا لفرص جديدة من خلال تسريع معدل الوفيات السياسية في البلاد".
لكن آخرين يحذرون من أن هناك حدودا لتحقيقات "غسل السيارات". وتقتضي الحاجة إجراء إصلاح سياسي من أجل تغيير الحوافز التي تجعل السياسيين يصبحون فاسدين في البرازيل. مثلا، يرى معظم المحللين أن من الضروري أن تكون هناك قواعد تمنع وجود عدد كبير من الجماعات السياسية الصغيرة في الكونجرس: يوجد في البرازيل 35 حزبا مسجلا.
يسمح هذا النظام للسياسيين الانتهازيين بتأسيس أحزاب للوصول إلى الأموال الحكومية المخصصة للجماعات السياسية. ومن ثم يمكنهم بيع وقت التلفزيون المجاني المقدم لهم خلال فترة الانتخابات للأحزاب الأكبر حجما. وبمجرد وصولها إلى الكونجرس، تسعى بعض الأحزاب الصغيرة إلى الحصول على الرشا مقابل دعم تشريعات معينة.
كذلك يسمح نظام التمثيل النسبي لعدد كبير جدا من السياسيين بالوصول إلى الكونجرس من دون دعم شعبي كبير، بحسب ما قال محللون. في الوقت نفسه، عمل هذا القانون على حماية السياسيين الفاسدين من خلال السماح فقط للمحكمة العليا التي تعمل ببطء، بمحاكمتهم في قضايا المخالفات بدلا من المحاكم الدنيا الأكثر دينامية ونشاطا.
وبحسب سوتيرو، من دون برنامج الإصلاح السياسي "يمكن لعشرة أشخاص من أشباه الأم تيريزا و200 شخص من أشباه البابا فرانسيس الوصول إلى الكونجرس وبعد شهرين حتى هؤلاء يصبحون أشخاصا سيئين. فالنظام يولد جميع الحوافز الخاطئة".
يقول النقاد "إن التحقيق في قضية غسل السيارات لا يخلو من الإخفاقات الخاصة به". بعد التفاوض بشأن الاعتراف بالذنب، أفادت وسائل الإعلام البرازيلية بأن الأخوين باتيستا انتقلا إلى نيويورك، بعد أن نجحا في عدم دخول السجن نتيجة الصفقة التي أبرماها مع المدعين العامين، الأمر الذي أثار غضب الرأي العام.
وتمكنت شركة جيه بي إس أيضا من تنفيذ تعاملات مالية بالعملات الأجنبية قبيل عملية الاعتراف، بدعوى توقع حدوث هبوط حاد في قيمة الريال مقابل الدولار وسط مخاوف تتعلق ببرنامج الإصلاح. وقد افتتحت الهيئة المنظمة للسوق في البرازيل خمسة تحقيقات في تلك التحويلات المالية، بما في ذلك ادعاءات بالتداول استنادا إلى معلومات سرية. لكن شركة جيه بي إس نفت ارتكابها أي مخالفة.
بالنسبة إلى المواطن البرازيلي العادي، مثل هذه القصص مفيدة فقط للتأكيد على ارتيابهم الشديد في السياسيين والشركات الكبيرة - وهو عامل سيكون سمة مهمة في انتخابات العام المقبل. حتى الآن، ليس هناك أي مرشحين واضحين، لكن من المتوقع أن يكون أداء الدخلاء على المشهد السياسي جيدا. بعد الفضائح التي طالت روسيف وتامر، سيأمل الشعب البرازيلي في الحصول على حكومة صادقة وذات كفاءة.
في "كاميلو" الموجود في منطقة جادرينز التي يسكنها الأغنياء، حيث بدأت دراما تامر، لا أحد يتوقع أن تتحقق نتائج مهمة.
ينهي أحد الزبائن البيتزا التي طلبها أمام ديكور المطعم ذي الطراز العربي. بعد أن ترك بعض البقشيش على الطاولة، يتحدث مازحا مع المدير "إليك هذه، ربما لا تكون مثل رشوة الأخوين باتسيتا، لكن خلافا للسياسيين في بلدنا على الأقل، أترك لك شيئا إضافيا".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES