Author

تحولات اقتصادنا الوطني .. ومواجهة التحديات

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية

يمر الاقتصاد الوطني بتغيرات وتطورات هيكلية واسعة النطاق، وعميقة التأثير، لا شك أنها تعد الأثقل وزنا طوال تاريخ اقتصادنا، وهي التغيرات التي يؤمل عبر مختلف مساراتها المتعددة أن يتحول الاقتصاد بقطاعاته ونشاطاته الرئيسة كافة إلى مزيد من التنافسية والإنتاجية عالية الكفاءة، وزيادة طاقته الاستيعابية، وتعزيز قدرته وفرصه على مستوى تحقيق النمو المستدام والشامل باستقلالية أكبر عن تقلبات أسعار النفط، ورفع درجات مؤهلاته على مستوى إيجاد فرص كريمة للعمل، وتعزيز وتنويع قاعدته الإنتاجية، وزيادة جاذبية الاستثمار في بيئة الأعمال المحلية، وتوظيف الثروات الوطنية الهائلة في الاتجاهات المجدية محليا، في الوقت ذاته الذي يؤمل أن تنحسر دوائر الاحتكار وتدوير الأموال والمضاربات العشوائية وفقا لأوضاعها السابقة، التي ألحقت كثيرا من الإضرار بالاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء.
يسعى اقتصادنا الوطني إلى تجاوز عديد من التحديات والمعوقات، التي ترتب وجودها سابقا على أثر القصور الذي شاب كثيرا من السياسات الاقتصادية والمالية السابقة، توزعت بين جوانب عددية ترتبط بالتنمية المستدامة كالتوظيف وتحسين مستوى الدخل، وتقليص فجوات التباين في مستويات الدخل بين طبقات المجتمع، والحد من أشكال الاحتكار والتستر التجاري، وتحسين بيئة الاستثمار المحلية، وتعزيز التنافسية في السوق المحلية، ومعالجة عديد من الأزمات كالإسكان، وسرعة تطوير البنى التحتية، والارتقاء بالرعاية الصحية، وتوسيع فوائد التنمية الشاملة والمستدامة لمختلف الشرائح السكانية، التي يتحمل مسؤولية قصورها بالكامل الحلقات التنفيذية الوسيطة سواء الأجهزة الحكومية التنفيذية أو منشآت القطاع الخاص المتعاقد معها. ويتفاقم حجم هذا القصور من تلك الأجهزة مع تعاظم حجم الإنفاق الحكومي الضخم، كونه لم يعكس السخاء الكبير الذي حظيت به من قبل الدولة، فلم يترجم إلى منجزات تعالج ما تقدم ذكره من آثار تنموية سلبية، بقدر ما أنها زادت بكل أسف من عمق تلك التشوهات الهيكلية، وزادت من الاعتماد والارتخاء على ساعد الإنفاق الحكومي المباشر وغير المباشر "الإعانات، القروض الميسرة من صناديق التنمية".
لعل من أكبر التحولات والتحديات في الوقت ذاته، التي تشكل وزنا ثقيلا خلال المرحلة الراهنة، ما يرتبط بتحرير أسعار الطاقة، والتخفيف التدريجي لضخ الإعانات أو التحفيزات الحكومية الأخرى للغذاء والزراعة، واقترانه بتحسين وتطوير برامج وأدوات السياسات الاقتصادية عموما، أخذا بعين الاعتبار الضرورة القصوى لاتخاذ التدابير الكافية تجاه مختلف شرائح المجتمع من السعوديين، سواء عبر تركيز تلك الإعانات الحكومية على مستحقيها دون غيرهم، أو عبر إعادة هيكلة سلالم الأجور والرواتب "الحكومة، القطاع الخاص"، إضافة إلى تحسين بيئة الاستثمار المحلية، وتسهيل تأسيس الأعمال بصورة شاملة، والاهتمام الأكبر بالمشاريع الصغيرة والمتوسطة. يؤمل أن يتم كل ذلك وغيره من التغييرات المنشودة وفق منظومة عمل متكاملة، ورؤية استراتيجية شاملة، وحماية العمل المشترك تجاه تحقيق تلك الغايات والأهداف المنشودة والمشروعة، من انفصال أو انفراد عمل أي جهاز حكومي أو شبه حكومي أو حتى منشآت القطاع الخاص عن الآخر، وهو الطريق الأفضل والممكن تحققه في الوقت الراهن تحت مظلة مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، عوضا عن السير المتئد الخطى الذي كانت تتقدم من خلاله وفق خطط التنمية الماضية. إذا والحال تلك من التغيرات المحتملة التي تبين أن تحرير أسعار الطاقة لا يقف عند هذه الخطوة فحسب، بل لابد أن يأتي ضمن تغييرات واسعة وشاملة لنسيج السياسات الاقتصادية الراهنة، بما يشبه إعادة هيكلة الاقتصاد الكلي بالصورة التي تستهدف إيجاد اقتصاد أعلى إنتاجية، وأكثر تنوعا من وضعه الراهن، وتستهدف قبل ذلك أيضا؛ أن يأتي أكثر تنافسية، بعيدا عن الاعتماد شبه الكامل على الإنفاق الحكومي المباشر وغير المباشر، وتيسير السبل كافة أمام القطاع الخاص عبر تسهيل بيئة الاستثمار المحلية، وفتح نوافذ المنافسة الكاملة، والحد إلى أبعد الحدود من أشكال الاحتكار بكل أنواعه ودرجاته، بما يكفل سهولة توجه السيولة والثروات نحو قنوات الاستثمار المتنوعة، التي تخدم احتياجات الاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء، وتغلق قدر الإمكان سهولة تدفقها نحو أي نمط من أنماط المضاربة أو تكدس الأموال في أصول غير منتجة كالأراضي البيضاء ونحوها من الأصول الأخرى غير المنتجة.
كل هذا سيترتب عليه كثير من المزايا الاقتصادية والتنموية، يمكن إجمالها في انحسار التشوهات المذكورة باختصار أعلاه، مقابل انفتاح كثير من فرص النمو والاستقرار الاقتصادي محليا. ويعز على الكاتب الاعتراف بأن كل ما تقدم لا يزال في طور النظرية بعيدا عن تحققه في الواقع حتى تاريخه، مع التأكيد أن الأمل بمشيئة الله معقود على جني ثمار الحراك الاقتصادي الراهن في الأجل القريب. وأن أي تحرك خارج هذا المنظور الشامل، لا شك أنه سيلحق كثيرا من الآثار السلبية بالجوانب التنموية والاجتماعية الواجب حمايتها، وقد يكون أكثرها ضررا أن تتم أي من تلك الخطوات أو الإجراءات دون أي تغيير على السياسات الاقتصادية.
ختاما؛ لا يوجد أي تحول جذري في أي اقتصاد حول العالم دون أن يرافقه بعض الآلام، إلا أنه رغم كل ذلك تأتي أدنى وقعا وألما من استمرار حياة التشوهات الهيكلية المتسببة في ضرورة القيام بتلك الإصلاحات والمعالجة، خاصة إذا كانت تلك التشوهات واسعة الانتشار، وآخذة في التفاقم عاما بعد عام كما كان قائما في مختلف أجزاء المشهد التنموي والاقتصادي المحلي. المؤكد وفق أحدث البيانات والمؤشرات الإحصائية الآن؛ أن الاقتصاد الوطني يمتلك بحمد الله كثيرا من الإمكانات اللازمة والموارد الكافية، لتحقيق التحول التام والشامل نحو الهيكلة المأمولة، التي ستفي تماما بعد توفيق الله بشروط تحقيق الأهداف والغايات الاستراتيجية المنشودة مهما بلغ سقف طموحاتها، وهو ما يجب الثقة به من قبلنا جميعا مؤسسات وأفرادا. والله ولي التوفيق.

إنشرها