المشراق

مدفع رمضان .. إرث أهل مكة قبل 130 عاما

مدفع رمضان .. إرث أهل مكة قبل 130 عاما

مدفع رمضان .. إرث أهل مكة قبل 130 عاما

عرف مدفع رمضان في كثير من أقطار العالم الإسلامي، وذكر سنوك هورخرونيه، الذي زار مكة المكرمة عام 1884، مدفع رمضان ضمن عادات أهل مكة الرمضانية. ويقول أحمد ماهر محمود البقري في رحلاته: "جرت عادة المسلمين قرب أذان المغرب في رمضان الجلوس بالحرم، وقد أعد كل منهم بعض التمر ونوعا من الخبز وربما قليل من القهوة يتبلغون بها عند مدفع الإفطار". ويتحدث محمد لبيب البتنوني (1357هـ) في "الرحلة الحجازية" التي قام بها أواخر عام 1327هـ/ 1909، عن عادات أهل المدينة المنورة فيقول: "ومن عاداتهم في شهر رمضان أنهم يتوجهون إلى الحرم قبل المغرب بنحو ساعة ويجلسون حول الحجرة الشريفة، ويمضون بقية نهارهم في قراءة القرآن الشريف والذكر والصلاة على الرسول. فإذا ضرب مدفع الإفطار يكون حضر لكل واحد منهم صينية فيها إفطار خفيف كالفطير والجبن والزيتون والبلح والحلوى وما أشبه ذلك فيفطر كل منهم مع من يدعوه إلى طعامه من الغرباء، ثم يعطي بقية أكله إلى من هنالك من الفقراء".
ومن النصوص المتقدمة عن مدفع رمضان ما ذكره البديري الحلاق في كتابه "حوادث دمشق اليومية"، في حوادث عام 1155هـ، إذ قال: "وكان هلال رمضان في هذه السنة نهار الإثنين وأثبت بعد العشاء، وأشعلت القناديل في سائر مآذن الشام، وضربت مدافع الإثبات في منتصف الليل، وحصل للناس زحمة في حركة السحور، حتى فتحت دكاكين الطعام ليلا كالخبازين والسمانين". كما ذكر ضرب المدافع عند ثبوت هلال رمضان في العالم الذي يليه. ويصف ريتشارد بيرتون، الرحالة الأيرلندي، الذي زار مصر عام 1853، مشاهداته للقاهرة في رمضان فيذكر أنه عند اقتراب المغرب تبدو القاهرة وكأنها أفاقت من غشيتها، فيطل الناس من النوافذ والمشربيات، تنتظر لحظة انطلاق مدفع الإفطار من القلعة، ويجلجل صوت المؤذن جميلا، داعيا الناس للصلاة، ثم ينطلق المدفع الثاني من قصر العباسية (سراي عباس باشا الأول) وتعم الفرحة أرجاء القاهرة التي كانت صامتة. ومن الواضح أنه يخصص للمدفع مكان محدد يطلق منه، ففي مدينة الرياض كان يطلق من قلعة الضيرين، أما في البوسنة والهرسك فيطلق من برج الساعة في مدينة ساراييفو.
أما في البحرين فلا نعرف بالتحديد متى بدأ مدفع رمضان، لكن كورنيلا دالنبرج، وهي واحدة ممن خدمن بالإرسالية الإنجيلية الأمريكية كممرضات ومدرسات في البحرين عام 1922، وعرفت باسم شريفة الأمريكانية، تتحدث في مذكراتها اليومية عن مظاهر شهر الصيام في البحرين، وتذكر أن مدفع رمضان كان يدوّي الساعة الثالثة والنصف من كل صباح إيذانا ببدء يوم صيام جديد. ويذكر تشارلز بلجريف في مذكراته عن البحرين أنه في يوم "السبت الأول من آذار (مارس) 1930، أطلقت مدافع العيد وقرعت أجراس مركز الحريق، وصادف يوم الأحد الثاني من آذار (مارس)، أول أيام عيد الفطر "وهو ما يوضح أن المدفع كان يطلق ليلة العيد لإعلام الناس بحلول العيد. ويُعد الملا جاسم بن محمد سالم (1922 - 1981) من أبرز وأقدم من أشرف على مدفع رمضان في البحرين.
وتذكر سالمة بنت سلطان عمان وزنجبار سعيد بن سلطان، التي غادرت بلدها زنجبار عام 1867م، وتسمت بعد زواجها وتنصّرها بإميلي رويته، أن الإمساك في رمضان يبدأ عند أهل زنجبار مع سماع طلقة المدفع من سفن السلطان.
وعرفت مدينة الرياض مدفع رمضان في فترة مبكرة، إذ بدأ في فترة حكم الإمام فيصل بن تركي (ت 1282هـ) في الدولة السعودية الثانية، وكان المدفع يطلق من أعلى قلعة الضيرين في المرقب، وعرف من المسؤولين عن المدفع حسين المدافعي، ثم جاء بعده شعيب بن عبد الحميد الدوسري، الذي ينسب له كتاب "إمتاع السامر".
وهذه العادة مستمرة في مكة المكرمة إلى اليوم، وقبل عدة أشهر صدرت موافقة المقام السامي على إعادة مدفع رمضان إلى المدينة المنورة ابتداء من رمضان عام 1436هـ، بعد انقطاع جاوز العقدين.
وكان مدفع رمضان معروفا في مدينة جدة قديما، إذ يذكر أحمد عبد الغفور عطار حادثة ولا يجزم بصحتها لشبهها بقصة أوردها عباس العقاد عن مدينة أخرى وقاض آخر "أن رجلا من أهل جدة سأل مفتي مكة بمجلس الشريف عون قائلا: ما قول مولانا دام فضله في الشمس تغرب في مدينة جدة فينطلق مدفع رمضان إيذانا بغروب الشمس فيفطر أهلها، ولكنهم لا يسمعون المؤذن إلا بعد بضع دقائق، وذهب المؤذن إلى أن إفطار الناس على المدفع غير جائز، وإن إفطار من أفطروا عليه باطل، ويجب أن يقضوا هذا اليوم". ثم ينقل أن مفتي مكة أفتى بأن إفطارهم صحيح. كما يذكر أن صاحب المدفع يسمى الطوبجي والطبجي. وهي تسمية معروفة في عدد من المدن العربية. والشريف عون أصبح أميرا لمكة من عام 1299- 1323هـ.
وجاء أول مدفع للكويت في عهد الشيخ مبارك الصباح، وذلك عام 1907، ويذكر المؤرخ عادل السعدون في كتابه "موسوعة الأوائل الكويتية" أن علي بن عقاب الخزرجي أول من أطلق مدفع رمضان في الكويت وأنه تعلم رماية المدفع من العثمانيين.
ويذكر محمد علي الصويركي في كتابه "إربد، المدينة: تاريخ وحضارة وآثار" أن إربد هي أول مدينة أردنية تستخدم المدفع في رمضان، وذلك عام 1373هـ/ 1952. ويذكر بعض المهتمين أن مدينة دبي عرفت مدفع رمضان في ستينيات القرن الميلادي السابق. وعرفت مدينة بريدة أول مدفع للإفطار في عام 1379هـ.
وكان أهالي القرى التي لا تتوافر فيها مدافع قديما يكلفون شخصا أو أكثر بالرمي بالبنادق حتى يسمع أهل القرية فيعرفون بدخول رمضان أو العيد.
وهناك نصوص تاريخية أخرى تتحدث عن عادة مدفع رمضان في مدن إسلامية أخرى، لو أوردتها لطال المجال. وبالإجمال فإن هذا المدفع أصبح سمة من سمات شهر رمضان الكريم في الدول الإسلامية. وكنا نسمع صوت هذا المدفع في مدينة الرياض قبل عام 1400هـ وبعيدها بشكل يومي، إلا أن ضخامة الرياض بعد ذلك وضجيجها سلبنا هذا السماع. وربما كان انتشار المساجد في بعض المدن والقرى سببا في التخلي عن المدفع.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من المشراق