Author

نشيد الانفصال البريطاني الجديد

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"الخروج بدون اتفاق من الاتحاد الأوروبي، أفضل من إبرام اتفاق سيئ" تيريزا ماي رئيسة وزراء بريطانيا هذه هي "النغمة" الآن على الساحة البريطانية "لا اتفاق أفضل من اتفاق سيئ". وهذا بالطبع يختص بالمفاوضات البريطانية ـــ الأوروبية حول خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، في أعقاب تفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة التي يفترض أنها تنظم عملية خروج دولة عضو من هذا الاتحاد. باتت هذه الصيغة التي أطلقتها تيريزا ماي رئيسة الوزراء قبل أسابيع، شعارا لكل السياسيين بصرف النظر عن الأحزاب التي ينتمون إليها. وهي في الواقع، تخفف من "الآلام" التي تعيشها ماي في هذه الفترة بالذات، بينما تحضر الأدوات التي تراها مناسبة لإطلاق المفاوضات مع الأوروبيين، وسط خلافات حتى داخل الحزب الحاكم في بريطانيا، فضلا عن تباين وجهات النظر حول طبيعة الخروج وشكله وصورة العلاقات بين جانبي "المانش" لاحقا. الأوروبيون من جانبهم، رغم الأسى الذي أظهروه بأشكال مختلفة على مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي، لن يحابوا لا بريطانيا ولا أي دولة أوروبية أخرى قد تفكر يوما في الخطوة البريطانية الانفصالية. وهذا في الواقع من حقهم، ويطبقون على لندن المثل الشعبي الشهير" دخول الحمام مش زي خروجه". يعني ستدفع بريطانيا التزاماتها المالية بصرف النظر عن حجمها "تقدر مبدئيا بـ 60 مليار يورو"، لعدة سنوات مقبلة. غير أن هذا الأمر ليس مهما فيما لو قيس، بعدم عقد أي اتفاقات تجارية أوروبية مع بريطانيا، إلى أن تُستكمل عملية مفاوضات الخروج. ما يعني أن المملكة المتحدة ستكون عالقة من دون اتفاقات تجارية أو ما شابه ذلك خلال فترة قد تصل إلى أكثر من عامين. كما أنه ليس من حق بريطانيا "حسب الأوروبيين" عقد اتفاقات اقتصادية مع أي دولة خارج نطاق الاتحاد الأوروبي إلى حين استكمال المفاوضات المشار إليها. وبعد أن وصف مسؤولون بريطانيون مسألة دفع بريطانيا أكثر من 60 مليار يورو لتسوية التزاماتها قبل الرحيل، بأنها "مسألة ابتزاز"، وصفوا قضية عدم عقد اتفاقات تجارية معها، بأنها "قضية انتقامية". غير أن هذا النوع من التوصيفات لا يقلل من مستوى الصلابة الأوروبية في هذا المجال، خصوصا أن الأمر برمته ليس حكرا على حكومات الاتحاد الأوروبي، بل تشترك فيه مؤسسات أوروبية مختلفة يتقدمها البرلمان الأوروبي نفسه، والبنك المركزي، والوكالات المختصة بالمجالات الحيوية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية وغيرها. فعلى سبيل المثال، يرى البرلمان الأوروبي، أن الأولوية يجب أن تمنح في المفاوضات لمصير ومصالح أكثر من مليون بريطاني يعيشون في أوروبا، وأكثر من ثلاثة ملايين أوروبي يعيشون في بريطانيا. فهذه المسألة على وجه الخصوص تمس أوروبيين وبريطانيين بصورة سريعة ومباشرة. الأمور معقدة بالفعل، ولا يمكن لأي جهة التحدث عن مفاوضات سلسة، ليس بفعل المواقف المتشددة المعلنة من الجانب الأوروبي، بل من جراء عدم وضوح الرؤية حتى لدى البريطانيين أنفسهم. بنك إنجلترا المركزي "على سبيل المثال"، أعلنها صراحة، بأن تكون هناك خطة طوارئ مالية في المملكة المتحدة، وهذه الخطة لا توجد على الساحة إلى الآن. وبالعودة إلى "نشيد" بريطانيا الحالي "لا اتفاق أفضل من اتفاق سيئ"، على رئيسة الوزراء أن تثبت لشعبها وممثليه صحة هذه النتيجة فيما لو حدث. المصيبة أن مسؤولين مقربين من تيريزا ماي يعترفون بعدم وجود تفسير واقعي لهذا الأمر، كما أنهم اعترفوا في أكثر من مناسبة بوجود بعض التخبط في التحضير للمواجهة الكبرى المتمثلة بإطلاق المفاوضات مع الأوروبيين المتحفزين للبريطانيين. لا مفر من الانسحاب أولا، وتأتي بعد ذلك الاتفاقات الثنائية بين "أشقاء" الأمس. ولا مهرب من دفع بريطانيا التكاليف الهائلة الواجبة عليها. ولا مساحة للتحرك حتى على الصعيد الخارجي ، خارج الاتحاد، قبل انتهاء المفاوضات التاريخية. أي أن المملكة المتحدة محاصرة، والأوروبيون يريدون بصورة أو بأخرى أن تكون بريطانيا عبرة لكل من تسول له نفسه من البلدان الأخرى في الاتحاد الأوروبي أن يفكر في الانفصال أو حتى يهدد به. ما يفسر تمسك الاتحاد ببريطانيا حتى الساعات الأخيرة لاستفتاء الخروج في حزيران (يونيو) الماضي. وتمسك الأوروبيين بهذا البلد لم يكن من فرط حبهم له، بل جراء حرصهم على عدم حدوث سابقة لم يمتلك أحد في العالم أدنى فكرة على أنها ستحدث يوما. وبالتشدد الأوروبي بعد ذلك، تأتي مرحلة تخويف الأعضاء بحالة بريطانيا المستقبلية والتفاوضية. ليس واضحا مدى صحة نشيد بريطانيا "لا اتفاق أفضل من اتفاق سيئ"، أو جدواه. للوهلة الأولى لا يمكن أن تعيش المملكة المتحدة وسط هذا العدد الهائل من الدول الأوروبية من دون اتفاق خروج لا يضمن طريقة الانفصال فحسب، بل يحدد آفاق العلاقات بين الطرفين. فلم يثبت عبر التاريخ أن الحياة تكون ممتعة إذا ما كان هناك خصام دائم بين الجيران، أو تعارض مصالح بينهم، ولا تنتج مثل هذه الحالة إلا مزيدا من العداء بأشكال مختلفة.
إنشرها