توجد لوحة في مدینة ویماوث الساحلیة الإنجلیزیة تقرأ سطورها ما یلي: "دخل الموت الأسود إلى إنجلترا عام 1348 عبر هذا المیناء، وقتل ما بین 30 و50 في
المائة من إجمالي سكان البلاد".
الأوبئة الدولیة ظاهرة، عمرها قرون غیرت مجرى التاریخ. "الموت الأسود" أي ذلك الطاعون الذي حصد الأرواح بالملايين في أوروبا، یعتقد البعض أنه نشأ في الصین، ويرى آخرون أنه جاء من شبه جزیرة القرم.
لقد تسبب في حدوث دمار في جمیع أنحاء أوروبا، ما تسبب في اضطرابات اجتماعیة واقتصادیة وسیاسیة في أعقابه.
بعد قرون، كان المستكشفون الأوروبیون، هم الذین حملوا أمراضا جدیدة عبر المحیط الأطلسي، ما تسبب في انتشار الأوبئة التي أهلكت السكان الأصلیین في الأمریكتین. نظرا إلى أن معدل انتشار الوفیات بفیروس كورونا یبلغ نحو 2 في المائة الآن، فلن یكون له ذلك التأثیر الذي نتج عن أسوأ الأوبئة في التاریخ.
على أنه بالنسبة إلى مجتمع عصري، لا تزال أسوأ السیناریوهات مروعة. حددت تقدیرات الحكومة البریطانیة، التي تم تسریبها هذا الأسبوع حالة متطرفة یصاب فیها 80 في المائة
فیروس كورونا، كیف یعمل الوباء على تغییر السیاسة العالمیة من الجمهور في بریطانیا بالوباء المستجد، حیث یؤدي إلى وفاة نصف ملیون شخص.
توقع البروفیسور مارك لیبتشیتش من كلیة تي إتش تشان للصحة العامة في جامعة هارفارد، أن ما بین 40 و70 في المائة من الناس في جمیع أنحاء العالم، من المحتمل أن یصابوا بالعدوى العام المقبل، رغم أن كثیرا منهم لن یكون لدیهم سوى أعراض خفیفة أو لا شيء على الإطلاق.
الوباء ضمن حملة الرئاسیات الأمریكیة
حالة الطوارئ الصحیة العامة، إلى جانب الركود العالمي، لدیهما القدرة على تغییر السیاسة في جمیع أنحاء العالم.
في هذه المرحلة، تتمثل المخاطر الأكثر وضوحا في الصین، والانتخابات الرئاسیة الأمریكیة، وتصاعد التوترات الدولیة، وتهدید أفقر دول العالم، وفي المقدمة هناك أزمة اللاجئین.
قال دونالد ترمب، الرئیس الأمریكي هذا الأسبوع، إن "فیروس كورونا تحت سیطرة كبیرة في الولایات المتحدة الأمریكیة"، وأشار إلى أن الوقت الآن، قد یكون مناسبا لشراء الأسهم.
كان ترمب یعتقد دائما أن سوق الأسهم المتصاعدة ستكون رصیدا ضخما في محاولته إعادة انتخابه في تشرین الثاني(نوفمبر) المقبل.
الآن یبدو أنه قلق من تفشي وباء محتمل یمكن أن یقلب الانتخابات، لكن إذا تبین أن تنبؤات الرئیس أنه سیتم احتواء الوباء مفرطة في التفاؤل، فقد یكون زاد ضعفه
السیاسي.
كما أن سجل إدارة ترمب بشأن التحضیر للأوبئة أیضا عرضة للهجوم. بعد استفحال فیروس إیبولا عام 2014، استضافت إدارة أوباما قمة دولیة لوضع ترتیبات عالمیة
للتعامل مع الأوبئة في المستقبل، وأنشأت وحدة في مجلس الأمن القومي للتركیز على هذه القضیة.
تم حل هذه الوحدة من قبل إدارة ترمب عام 2018، كما عانت المراكز الأمریكیة لمكافحة الأمراض والوقایة منها إجراء تخفیضات جذریة في أنشطتها للوقایة من الأوبئة.
الجائحة - إذا تم إعلانها وحملت التسمیة تلك في النهایة - یمكن أن تزید الدعوات إلى مزید من التوجیه الحكومي للنظام الصحي في الولایات المتحدة، ما یعزز الحجج المقدمة لتأمیم الرعایة الصحیة من قبل السيناتور بیرني ساندرز، أبرز المرشحین للفوز بترشیح الحزب الدیمقراطي.
بالنظر إلى التقالید التحرریة القویة في أقصى الیمین الأمریكي، وشعبیة نظریات المؤامرة حول خطة الحكومة الفیدرالیة لإلغاء حریات الأمریكیین العادیین فإن الحكومة الأمریكیة ستكافح من أجل عزل البلدات بالطریقة التي رأیناها في الصین، وعلى نطاق أصغر في إیطالیا.
بید أن أي جهد للقیام بذلك یمكن أن یؤدي إلى اندلاع العنف بین السلطات الفیدرالیة والمیلیشیات التي تطلق النار.
الوباء وتهدید الشرعیة في الصین
على عكس ترمب، فإن تشي جین بینج، نظیره الصیني، لا یتعین علیه القلق بشأن إعادة انتخابه.
ومع ذلك یظل فیروس كورونا یشكل تهدیدا لشعبیته وشرعیته بل حتى بشكل یمكن تصوره لقیادته بالذات، وبالتالي مستقبله السیاسي وهو الذي یرمي إلى البقاء في الحكم، ما دام على قید الحیاة.
مع تقلص السفر بشدة خارج البلاد وإغلاق المدن الصینیة الرئیسة من الناحیة العملیة، من الواضح أن الرئیس الصیني یواجه في وقت واحد حالة طوارئ صحیة وأزمة اقتصادیة وإحراجا دولیا.
تسعى الحكومة في بكین إلى تصویر الفیروس على أنه كارثة طبیعیة دون أي خطأ یتعلق بتشي أو إدارته.
یؤكد الخط الرسمي قدرة بكین على اتخاذ إجراءات سریعة وفعالة، والتضامن الاجتماعي الذي یبدیه الشعب الصیني العادي في معركته لاحتواء الوباء.
مع وجود أكثر من نصف البلاد التي یبلغ عدد سكانها 1.4 ملیار نسمة، فإنها تواجه بعض القیود المفروضة على حریة تنقلهم، وحیث إن 150 ملیون شخص یواجهون قیودا على مغادرة منازلهم، یمكن القول إن الصین بدأت أكبر عملیة تطویق صحي في التاریخ.
ومع ذلك من الواضح فإن القصة الرسمیة یمكن تحدیها كما یتضح من الضجة التي أثارتها وفاة لي وین لیانج، وهو طبیب شاب یعمل في ووهان، مركز الوباء.
في الأیام الأولى للأزمة أثار لي إنذارا في مجموعة دردشة عبر الإنترنت. وقد أكسبه هذا زیارة من الشرطة أجبرته على الوعد بالتوقف عن نشر الشائعات وتوقیع اعتراف.
على أنه وهو على فراش موته، أدلى بتصریح انتشر لاحقا على أوسع نطاق على الإنترنت، قال فیه: "أعتقد أنه لا ینبغي لمجتمع سلیم أن یكون له نوع واحد من الأصوات"، دون ذكر الرئیس الصیني، فكانت شهادة لي عند الوفاة إدانة أنیقة ومؤثرة وعمیقة لأسلوب سیاسة الرجل القوي الذي یتبعه تشي، ولعل أبرز ما فیها أنها قیلت بصدق وبساطة ووضوح.
الفیروس وتغذیة التوترات الدولیة
منذ الآن بدأت لعبة اللوم العالمیة في تكثیف التوترات بین الدول مع انتشار نظریات المؤامرة وإغلاق الحدود.
في غرف الدردشة على الإنترنت في الصین، هناك تكهنات واسعة بأن الفیروس تم تصنیعه في أمریكا لإلحاق الأذى بالصین.
لم یعبر المسؤولون في بكین عن نظریات المؤامرة من هذا النوع، لكن بعض نظرائهم في الولایات المتحدة لم یكونوا متحفظین إلى هذه الدرجة.
طرح السيناتور توم كوتون، وهو جمهوري من الصقور ولدیه طموحات رئاسیة، فكرة أن فیروس كورونا انتشر بواسطة برنامج أسلحة بیولوجیة في مختبر حكومي في ووهان.
في إیران، أصیب كبار أعضاء الحكومة بالفیروس، وصف الرئیس حسن روحاني المخاوف التي نشرها فیروس كورونا بأنها "مؤامرة من قبل أعداء إیران"، في معرض دفاعه الیائس عن تفشي الفیروس في بلاده، التي تعد ثاني أكبر دولة موبوءة بالعدوى في العالم، بعد الصین، مباشرة.
إلقاء اللوم مباشرة على الدول الأخرى لتصنیع الفیروس أو انتشاره یظل نادرا نسبیا.
اعتماد الحجر الصحي وحظر السفر في جمیع أنحاء العالم یسبب احتكاكات بین الأمم.
انتقد المسؤولون الصینیون قرار إدارة ترمب رفض دخول الرعایا الأجانب الذین كانوا في الصین في الأیام الـ14 السابقة، إضافة إلى نصائح السفر التي حذرت الأمریكیین من زیارة الصین قائلین إن الإجراءات "أثارت ذعرا غیر ضروري".
وفي الوقت نفسه انتقد مایك بومبو، وزیر الخارجیة الأمریكي الصین وإیران لحجبهما المعلومات، في حین أن بكین ترید الثناء من المجتمع الدولي لجهودها في احتواء الفیروس.
أصر وانجیي، وزیر الخارجیة الصیني، على أن: "الصین لا تحمي شعبها فحسب، بل تحمي بقیة العالم" أیضا.
الوباء خارج الصین
مع تدهور الوضع سریعا في كوریا الجنوبیة، كان هناك انتشار للمشاعر المعادیة للصین، التي كانت موجهة جزئیا إلى بكین وأیضا إلى الرئیس مون جاي إین بسبب تردد حكومته في حظر دخول الزوار الصینیین.
فیروس كورونا: كیف یعمل الوباء على تغییر السیاسة العالمیة رغم علاقتهما الصعبة، تجنبت الیابان بشكل مدروس أي انتقاد لبكین بسبب تفشي المرض، لكن رد فعل الجمهور في الیابان كان أكثر عدائیة، حیث وضع بعض المطاعم لافتات ترفض دخول الزبائن الصینیین.
مع تأكید تفشي الفیروس بشكل كبیر في إیطالیا، یشعر الاتحاد الأوروبي الآن بالقلق حیال تهدید منطقة شنجن الخالیة من الحدود التي تغطي 26 دولة أوروبیة.
في الأصل تلقي أزمة اللاجئین في القارة بثقلها على شنجن حیث أعادت دول مثل فرنسا والنمسا إجراء عملیات تفتیش على الحدود.
بموجب قانون الاتحاد الأوروبي، یسمح للدول بإغلاق حدودها في حالة الطوارئ الصحیة العامة.
على أن هذه الإجراءات یقصد بها اتباع إرشادات واضحة صادرة عن بروكسل.
یكمن الخطر في أنه مع تزاید الضغوط السیاسیة، قد تتخذ دول الاتحاد الأوروبي إجراءات عشوائیة غیر منسقة.
التجارة الدولیة یمكن أن تعاني بقدر السفر الدولي. لم تكن العولمة قضیة رائجة منذ عدة أعوام حیث ینحي أنصار الحمائیة باللائمة على التجارة في فقدان الوظائف، ویسلط السیاسیون المدافعون عن البیئة الضوء على التكالیف البیئیة.
یعطي الوباء لمناهضي العولمة حجة أخرى، حیث یسمح لهم بتسلیط الضوء على مخاطر الاعتماد على سلاسل التورید المعرضة لأنواع الاضطرابات التي یسببها الفیروس.
أزمة اللاجئین والدول الفقیرة
حتى الآن حدثت أكبر حالات الإصابة المؤكدة بالفیروس في الدول الغنیة أو متوسطة الدخل التي توجد بها حكومات مركزیة قویة، مثل الصین والیابان وإیطالیا وكوریا الجنوبیة.
على أنه سیكون من الأصعب احتواء الفیروس، ومتى ینتشر إلى الدول الفقیرة، ذات الأنظمة الصحیة الأقل تطورا.
في نیجیریا، أكثر دول إفریقیا سكانا، أبلغت عن أول حالة لها. وهناك مخاوف من أنه قد یكون هناك منذ الآن عدد كبیر من الحالات في دول مثل إندونیسیا والهند التي لم یتم الإبلاغ عنها بعد.
تشكل إندونیسیا مصدر قلق خاصا حیث یبلغ عدد سكانها 270 ملیون نسمة ولدیها علاقات اقتصادیة وثیقة مع الصین.
في أوروبا والشرق الأوسط یعیش اللاجئون غالبا في مخیمات مكتظة في ظروف غیر صحیة، وحیث هناك 12 ملیون شخص منتشرین في جمیع أنحاء العراق ولبنان وتركیا وسوریة، وهناك ملیون شخص آخر معظمهم من الأفغان في إیران بل كذلك في باكستان.
وضع السوریین الفارین من الهجوم العسكري لنظام الأسد بدعم من روسیا على إدلب ویعیش كثیر منهم في خیام على طول الحدود التركیة یائس منذ الآن، ویبدو أنهم باتوا بالتأكید عرضة لانتشار العدوى.
في هذا السیاق، فإن إعلان الحكومة التركیة هذا الأسبوع أنها لن تقید تدفق اللاجئین إلى أوروبا یثیر قلق الاتحاد الأوروبي.
شهد الأسبوع الماضي تحول فیروس كورونا إلى أزمة عالمیة حقیقیة. ورغم أن من المحتمل تجنب أسوأ السیناریوهات الصحیة، إلا أن رصد الآثار السیاسیة للوباء لا یزال في بدایاته، بما یجعل من الصعب التنبؤ بحجم الضرر، وإن كان من الیسیر تصور اطراد انتشاره.