ثقافة وفنون

مستقبل الأخبار .. صحافي خاص لكل قارئ

مستقبل الأخبار .. صحافي خاص لكل قارئ

فرضت التطورات المتلاحقة للثورة الرقمية تحديات عديدة على أغلب المهن، حيث تراجع حضور الإنسان وتقلص دور العامل البشري، لمصلحة تمدد الآلة وبسط الذكاء الاصطناعي سيطرته على نطاقات جديدة في حياتنا المعاصرة. مهنة الصحافة ليست بعيدة عن أمواج التسونامي الرقمي، بعدما وجد صناع الأخبار أنفسهم مجبرين على مسايرة التحديثات التي تلحق مهنتهم، فالتكنولوجيا أحدثت ثورة في طريقة تلقي الجمهور الأخبار، وألغت قائمة من الامتيازات التي كانت تحتكرها الصحافة التقليدية.
صحيح، فحتى الأصوات التي كانت تنكر إلى وقت قريب تسمية "الثورة التكنولوجية"، صارت تعرف اليوم بهذه النقلة النوعية التي فرضت آليات جديدة وأدوات مختلفة؛ بما في ذلك حسابات عصرية لم تكن مطروحة من قبل. فليست المسألة، كما في السابق؛ الانتقال من عصر البخار إلى عصر الكهرباء، بل استدعى الأمر استيعاب علوم لم تكن معروفة من قبل، وطرائق للتفكير لم تكن متاحة منذ عقود قليلة، إننا أمام عقل مختلف تماما، بأفكار جديدة لم تكن متداولة في الماضي.
تدريجيا، بدأت أثار التغيير الكاسح تزحف نحو عالم الصحافة الورقية، بعد أن كانت الوسيلة الأكثر نشرا للأخبار، منذ زمن الحمام الزاجل، حتى أضحى أرباب القلم اليوم مطالبين بإخضاع مهنة المتاعب لتغييرات جوهرية، فرضتها الابتكارات التكنولوجية التي شرعت في هندسة معالم المشهد الإعلامي وبنائها، من خلال إعادة النظر في مفاهيمه الجوهرية، وأدبيات جمع المعلومات ونشر الأخبار. فجاءت الخيارات متنوعة، لدرجة فاقت توقعات الصحافيين والجمهور معا، فشبكة الإنترنت فتحت الحدود؛ ما أسهم في إغناء مصادر الأخبار، وإعادة ترتيب ما كان ملكا للصحافي التقليدي، ومذيع الأخبار ووكالات الأنباء.
لقد نجح الإعلام الجديد في نيل نصيب من المساحات الإعلانية في عالم صحافة اليوم، خصوصا وأنه يتيح للمعلن معرفة حجم الإقبال على إعلانه من الجمهور.
كما نجح هذا الإعلام في إخراج العملية التواصلية من دائرة الحدود الوطنية ليمنحها بعدا عالميا، فصار المنتوج الإخباري قابلا للتصدير والاستيراد، على غرار السلع والبضائع. واستطاع تجاوز التلقي السلبي لدى جمهور "الإعلام التقليدي"، حيث أفسح المجال أمام القراء للتفاعل مع منتجي المادة الإعلامية، أو الدخول في سجال جماعي فيما بينهم أو حتى التواصل مع المراسلين من عين المكان، لينخرط الجميع في حوار تفاعلي من شأنه أن يشكل قيمة مضافة إلى رواية الخبر أو التحليل، بدل الاكتفاء بالقراءة أو الاستماع أو المشاهدة.
تذهب التوقعات إلى أن صناعة الأخبار في المقبل من الأعوام ستعرف مزيدا من التطور، بدءا بما نشهده حاليا من تجاوز الإعلام الجديد مهمة نشر الأخبار على مواقعه، وانتظار زيارة القراء لها، نحو الذهاب إلى جمهور القراء، حيث يوجدون على مواقع التواصل الاجتماعي، وحتى من خلال تطبيقات الرسائل النصية، وصولا إلى التفاعل عبر هذه التطبيقات مع الصحيفة، وحتى الاستفسار عن جزء غير واضح من الخبر، ليحصل القارئ على الإجابة في اللحظة ذاتها، وكأنه يتحدث مع صديق.
في المنحى ذاته، يرى خبراء إمكانية استخدام الصحف تقنية الذكاء الاصطناعي، قصد تحديد ماهية الأخبار التي يهتم بها كل قارئ على حدة، وربما أسلوب الحوار الذي يفضله؛ لذا ستكون الأخبار الموجهة إلى قارئ في ريعان الشباب بلغة مغايرة لتلك التي يتلقاها قارئ في أرذل العمر. سيكون ملتقي الأخبار في المستقبل قادرا على استقبالها عبر مختلف الوسائل، لكن جميعها يشترك في معرفة اهتمام المتلقي بدقة؛ فهي تقول له فقط ما يريده باللغة والأسلوب المناسبين، حتى نصبح في وضع أشبه ما يكون فيه لكل قارئ صحافي إلكتروني خاص به.
من شأن استعمال تقنية الواقع المعزز المساهمة في نقل المتلقي إلى موقع الحدث، عبر الدمج بين الواقع الافتراضي والواقع الحقيقي. أكثر من هذا، تتحدث بعض الأصوات المتطرفة في التبشير بالإعلام الجديد عن "موت الصحافي"، بعد أن سرّتها تجربة التكنولوجيا القادرة على كتابة أخبار بشكل آلي، دون تدخل من البشر، خاصة، تطبيقات من قبيل "أبل سيري" و"أمازون أليكسا"، القادرة على التحدث مع المستخدم، والإجابة عن أسئلته كما لو أنها إنسان. وازداد هؤلاء المتفائلون يقينا، بعد الإعلان عن تكنولوجيا قادرة على فهم محتوى الصور، وتلخيص ما فيها في شكل نصوص كتابية، والعكس غير مستحيل أيضا؛ تكنولوجيا تقرأ الخبر، وتعيد إنتاجه في صورة فيديو افتراضي.
ما لا شك فيه أن الثورة التكنولوجية فرضت على خُدَّام "صاحبة الجلالة" تطورات من شأنها دفع الصحافة التقليدية نحو التكيف، مع ما توفره الإنترنت من إعلام متعدد الوسائط، لكنها قطعا لم ولن تشكل تهديدا للجنس الصحافي. صحيح أن وظائف هذا الأخير وعاداته تشهد تغييرا كبيرا، فمهمة الصحافي "المخبر" تقلصت إلى حدودها الدنيا، لمصلحة مهمة الصحافي "المغربل"، الذي سيكثر عليه الطلب مع طوفان المعلومات المتاحة للتوزيع والنشر، ما يعني أن مهام أرباب القلم في المستقبل سترتكز أساسا على الاختيار والتصنيف وجمع المعطيات والتحرير. فبرمجيات الذكاء الاصطناعي مهما بلغت من التطور، لن تقدر على احترام قواعد حقوق الملكية والنشر والتأليف، ناهيك عن فقدانها معايير الأخلاقيات الصحافية.
نعم، لقد تغير الوضع، إذ لم يعد الصحافيون هم المسيطرون والمحددون لأولويات المجتمعات الخبرية والمعلوماتية، على غرار ما كانت عليه الحال في السابق، حين درج الصحافيون كل صباح على تحديد أولويات العمل ومسارات البحث عن الأخبار، ما يمكنهم من توجيه الرأي العام، لكنه لا يعني مطلقا حلول الآلة محل البشر، فالذكاء الاصطناعي - بحسب ماثيو ويكلز رئيس تحرير وكالة "بلومبيرج" - "سيقدم يد العون إلى الصحافيين لأداء عملهم بشكل أفضل، أما أن يحل محلهم، فلن يحدث ذلك على الأقل خلال الأعوام الكثيرة المقبلة".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون