Author

الذكاء الاصطناعي يقرع الأبواب .. كيف نستجيب له؟

|

إنه يقرع الأبواب، أبواب العالم بأسره وبصوت مستمر يرتفع تدريجيا، والسؤال الذي أمامنا اليوم هو: كيف نستجيب له؟ في هذا المجال، هناك استجابات أولية حدثت وتحدث فعلا. في التوعية هناك كتابات عديدة في مختلف المطبوعات والإنترنت، منها ما شهدته هذه الصفحة من مقالات حول الموضوع شملت مضامين مختلفة، بينها الخطط الوطنية لهذا الذكاء في عدد من دول العالم. وفي التعليم والبحث العلمي يطرح بعض جامعاتنا برامج تعليمية ومشاريع بحثية جديدة في هذا المجال. ولعل الاستجابة الرئيسة الفاعلة تتمثل في إنشاء "الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي". وغاية هذا المقال هي طرح الموضوع وبيان مضامينه والتعليق على مسألة الاستجابة له.
بداية لا بد من العودة إلى أول تعريف علمي "للذكاء الاصطناعي" الذي صدر عن "معهد ماساشوستس التقني MIT" الشهير عام 1959 على لسان مارفن منسكي Marvin Minsky. يقول هذا التعريف "إن هذا الذكاء هو العلم الذي يجعل الآلة تقوم بالأعمال الذكية التي يقوم بها الإنسان". ولا شك أن هذا التعريف ما زال صالحا للتعبير باختصار عن الذكاء الاصطناعي، لكنه غير كاف لبيان مضمونه. ولعل من المفيد هنا التوسع في التعريف قليلا عبر طرح مسألتين رئيستين لتوضيحه.
ترى المسألة الأولى أن الذكاء الاصطناعي يعتمد في تنفيذ إجراءات التفكير والتعلم على "التقنية الرقمية". وبما أن هذه التقنية تتمتع بقدرة فائقة على تلقي المعلومات من جهات عدة، وتخزينها بكميات كبيرة، ومعالجتها ونقلها بسرعة هائلة، والعمل لساعات طويلة دون كلل أو ملل، لذا فهي تتفوق على الإنسان في تنفيذ إجراءات التفكير التي زودها الإنسان ذاته بها، واتخاذ قرارات في تطبيقات مختلفة ومعقدة كثيرة. وتعد المسألة الثانية أن قيام الإنسان بتمكين الحاسوب من القيام بإجراءات تفكير مماثلة لإجراءات تفكيره لن يكون كاملا، خصوصا أن تفكير الإنسان قد ينطلق أحيانا من خياله الشخصي، أو من ومضة فكرة تقفز فجأة إلى عقله. وعلى ذلك "لن يكون الذكاء الاصطناعي مهما تقدم موازيا تماما للذكاء الطبيعي"، وإنما سيكون دائما أسيرا له. وستبقى للذكاء الطبيعي خصائص غير قابلة للنقل إلى الآلة.
بناء على سبق، يمكن طرح ثلاث نتائج رئيسة. تقول النتيجة الأولى "إن الذكاء الاصطناعي امتداد لذكاء الإنسان ذاته"؛ لماذا؟ لأن الإنسان هو الذي يعلمه التفكير واتخاذ القرار على غرار ما يفعل هو ذاته. وتبين النتيجة الثانية أن الذكاء الاصطناعي يستطيع جعل الآلة قادرة على القيام بأعمال مفيدة تتفوق فيها على الإنسان؛ لماذا؟ لأنها تملك معدات ووسائل تفوق في إمكاناتها ما لدى الإنسان، خصوصا في حجم المعلومات وسرعة التعامل معها. وتبرز النتيجة الثالثة أن هناك معطيات فكرية يتفرد بها عقل الإنسان، وهي خارجة عن إمكان نقلها إلى الذكاء الاصطناعي، وتطبيقات تحكمه في الآلة؛ لماذا، لأن فيها خيالا طليقا ونبضات فكر منحها الله عز وجل لمخلوقه الإنسان.
وهكذا نجد أن "للذكاء الاصطناعي" في حياتنا أثرا يشمل جانبين مترابطين. في الجانب الأول، نرى أن الذكاء الاصطناعي يعطي الإنسان "امتدادا مفيدا" لإمكاناته العقلية في الفهم والإدراك والتفكير واتخاذ القرار والتحكم في الآلات في شتى المجالات، وبمستوى أداء أفضل من الإنسان ذاته في كثير من مهمات الحياة والمهن المختلفة. ونتيجة للأثر في هذا الجانب، يأتي أثر الجانب الثاني، ليبرز "تحدي" الذكاء الاصطناعي للإنسان في "سوق العمل". فأصحاب الأعمال والشركات الخاصة العاملة في الصناعات والخدمات المختلفة يرون في الذكاء الاصطناعي وتحكمه في الآلة وإمكاناته الكبيرة بديلا متميزا للإنسان، يعطي أداء أفضل وإنتاجية أعلى وبتكاليف أقل، ما يؤدي إلى زيادة الأرباح والقدرة على مزيد من الاستثمار والتوسع. ويؤدي هذا الأمر إلى بطالة تسبب مشكلات اجتماعية في مختلف أنحاء العالم.
ومع الاستمرار في تقدم الذكاء الاصطناعي وإمكاناته وتطبيقاته، وضع كثير من الدول "خططا وطنية" للذكاء الاصطناعي كي تستطيع امتلاك زمامه والاستفادة منه في زيادة الإنتاجية ورفع قيمة "الناتج المحلي الإجمالي GDP لها"، وقد طرحنا ذلك في مقال سابق العام الماضي. ولعل من المفيد هنا ملاحظة أن هذه الخطط لم تنس مسألة البطالة ومشكلاتها الاجتماعية. فقد دعا بعض الخطط إلى "تطوير نماذج عمل جديدة تستهدف الاستفادة من الذكاء الاصطناعي من جهة، وتشغيل الثروة البشرية والاستفادة منها أيضا من جهة أخرى. والمقصود بالطبع هو إيجاد أعمال بديلة للإنسان تغنيه عن الأعمال التي كان يقوم بها وباتت بين يدي الذكاء الاصطناعي وآلاته وتطبيقاته، على أن تكون هذه الأعمال منتجة ومفيدة ومقنعة لأصحاب الأعمال.
لا شك أن العالم الآن في مرحلة التحول إلى الذكاء الاصطناعي ولن تكون هذه المرحلة قصيرة زمنيا، فلن نستيقظ بين يوم وليلة لنجد آلات الذكاء الاصطناعي قد احتلت كثيرا من الوظائف، بل إن هذا التحول سيتم تدريجيا. ولا بد من الإعداد لذلك على محورين اثنين. المحور الأول هو محور "الاهتمام بالذكاء الاصطناعي والسعي إلى الإبداع والابتكار في مجالاته" ليس علميا وتقنيا فقط، بل اقتصاديا واجتماعيا أيضا عبر تطبيقاته التي ستنتشر في شتى نواحي الحياة، حيث سنراه في كل منزل، ومكتب ومؤسسة، فضلا عن الشارع أيضا. أما المحور الثاني فهو محور "الاهتمام بالحاجة إلى نماذج عمل جديدة تستفيد من الإنسان إلى جانب استفادتها من الذكاء الاصطناعي، والإبداع والابتكار في تقديمها ووضعها موضع التنفيذ من أجل منع البطالة وتجنب مشكلاتها الاجتماعية الكبيرة.
الاستجابة المنشودة للذكاء الاصطناعي يجب أن تأتي على هذين المحورين. ولعل أول خطوة في هذا المجال هي وضع خطة وطنية متكاملة للذكاء الاصطناعي، تقودها ربما الهيئة الوطنية للذكاء الاصطناعي وتستقطب في وضعها الجامعات ومختلف الإدارات الحكومية، والشركات ومؤسسات القطاع الخاص. والأمل بعد ذلك هو العمل المشترك على تنفيذ هذه الخطة، ربما عبر "مؤسسات تملكها الدولة جزئيا أو كليا"، وقد تحدثنا عنها في مقال سابق، خصوصا أن توجهات مثل هذه المؤسسات ليست اقتصادية فقط، بل اجتماعية أيضا.

إنشرها