Author

المالية العامة وبناء اقتصاد متنوع

|


منذ عقود والعالم يتحدث عن مرحلة تحول الاقتصاد العالمي من النفط إلى مصادر جديدة للطاقة، ولم تتوقف التقارير عن محاولة تحديد نقطة وصول الطلب على النفط أو وصول الإنتاج إلى أعلى قمته. ولم يزل عديد منا يتذكر مقولات نهاية عصر النفط الرخيص، ومع ذلك فإن النفط لا يزال المصدر الأهم للطاقة والحضارة الإنسانية عموما، كما أن السعودية خصوصا، تسعى مع دول أخرى صديقة إلى إصلاح السوق النفطية كلما تعثرت، ولعل آخر تلك الجهود الناجحة، إنشاء مجموعة "أوبك +". ورغم المحاولات التي تسعى إليها بعض الدول للوصول إلى أعلى مستوى من كفاءة استخدام الطاقة، فإن تقارير عن مجلس الطاقة العالمي تؤكد أن نجاح هذه الجهود في توليد الكهرباء، يقابله ضعف في مجال التدفئة والنقل، كما أن أنظمة توليد الطاقة المتجددة لا تزال مكلفة نسبيا وغير موثوق بها، مقارنة بالأنظمة التقليدية للطاقة، وإذا أضفنا إلى ذلك التوقعات بشأن نمو حصة طلب صناعة البتروكيماويات من إنتاج النفط ليصل إلى 15 في المائة كنمو لازم للنمو في منتجات الطاقة المتجددة، فإن النفط سيبقى سيد الموقف ما بقي هناك بئر تضخ الذهب الأسود، ومع ذلك فإن حدوث صدمات في العرض والطلب، لا تزال توجد تقلبات وانعكاسات على مالية واقتصاد الدول المصدرة، وتفرز نقاشا في أروقة المؤسسات الدولية، كصندوق النقد.
هكذا يجب أن يقرأ الاقتصاد السعودي في ظل "رؤية 2030" التي انطلقت لتحقيق تنويع اقتصادي واسع، وعدم الارتكاز على النفط كمصدر وحيد للتنمية، ولهذا وضعت "الرؤية" دورا محوريا للقطاع الخاص في مشروع تحول استراتيجي يخفف العبء عن المالية العامة في تنفيذ مشاريع التنمية، وفي إنتاج فرص وظيفية، واستدامة النمو الاقتصادي في الدولة، وكان برنامج التوازن المالي أحد أهم مبادرات "الرؤية" مع دخول ضريبة القيمة المضافة والانتقائية، الرسوم، الجمارك، تصحيح الدعم، أسعار الطاقة، ترشيد الإنفاق، تخفيض العجز من جانب، وزيادة الإيرادات غير النفطية من جانب آخر. واليوم تأتي المؤشرات الاقتصادية مؤكدة تحقق عديد من النجاحات في ذلك المسار، حيث بلغت الإيرادات غير النفطية نحو 310 مليارات ريال بما يعادل 35 في المائة من حجم الميزانية، من بينها مبلغ يزيد على 46 مليار ريال كضريبة قيمة مضافة، ونمت الإيرادات غير النفطية 2 في المائة سنويا، حيث بلغت في 2018 مبلغ 294 مليارا، ومن المتوقع أن تتجاوز 320 مليارا في 2020. وأشارت التقارير الإحصائية إلى أن قيمة الصادرات غير النفطية من المملكة تجاوزت 54 مليار ريـال، شكلت 10.8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي، الذي ينمو بمعدل 6 في المائة سنويا. وإذا كانت بعض التقارير الدولية تشير إلى 2035 لوصول النفط إلى أعلى قمة منحنى الطلب، فإن الإيرادات غير النفطية حينها تكون قد نمت 30 ضعفا فيما لو استمر المنحنى الخاص بها على هذا المنوال، فكيف والمملكة لم تزل في بداية مشروعها الطموح الذي يسعى إلى نمو في الناتج المحلي الإجمالي يصل إلى أكثر من 3 في المائة سنويا، فالقاعدة الأساس التي تقوم عليها رؤية المملكة 2030 هي التنوع الاقتصادي المعزز للنمو وجودة الحياة، وليس الانجراف خلف مخاوف ليس لها أساس منطقي.
لقد أشاد تقرير حديث لصندوق النقد الدولي بمنهجية المملكة في تنويع مصادر دخل المالية العامة، لكنه عاد وأكثر القلق بشأن قدرة هذه الإصلاحات على الوصول بالاقتصاد السعودي إلى بر الأمان بحلول 2035 على أساس أن الطلب على النفط سيتغير بعدها. لقد أسهب التقرير في توقعاته وقدم سيناريوهات متعددة تشاؤمية في جوهرها، خاصة أن ظاهرة تراجع النمو في الطلب شهدها العالم من قبل في الفترة من 1980 حتى 1986 ثم تجاوزها ليحقق نموا مستمرا من ذلك الحين، كما أن التقرير لم يتنبه إلى أن رؤية المملكة 2030 ليست رؤية قاصرة النظر، حتى تفشل في قراءة أثر الصدمات النفطية أو أن تركز اهتمامها بالمالية العامة فقط، بل هي خطة تنوع اقتصادي حقيقية وصريحة وجادة، فالمشهد واضح بشأن صندوق الاستثمارات العامة الذي أصبح رافدا مهما وصريحا في التنمية الاقتصادية بعيدا عن إيرادات المالية العامة، واستطاع الصندوق خلال الفترة الماضية تعظيم أصوله، ولا يغيب عنا هنا أثر اكتتاب شركة أرامكو السعودية في تنمية مالية الصندوق، حيث نجحت المشاريع الاستراتيجية في تنشيط القطاع السياحي، الذي قفزت مساهمته من 57 مليارا 2004 إلى 211 مليارا في 2018 ونسبة نمو تتجاوز 7 في المائة. ومع التغيرات الواسعة في التشريعات المتصلة بالسياحة، فإن نمو حصة المملكة من هذا القطاع العالمي سيزداد مع إقبال العالم على اكتشاف المملكة، كما أن العمل قائم على تنويع الصناعة وتنمية القطاع اللوجيستي، وتنمية المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وهذه المشاريع كلها ستؤدي في نهاية المطاف مع معدلات الضريبة القائمة حاليا إلى تنامي دخل المالية العامة من الإيرادات غير النفطية، وتقليص حجم الاعتماد على إيرادات النفط، ما سيجنب المملكة أي صدمات نفطية أخرى قادمة.

إنشرها