Author

العائد على التعلم .. مسألة شخصية

|


تأجيل حضور دورة مهمة، أو تسويف قراءة كتاب أو مقال يشرح مجموعة من المهارات الضرورية، أو حتى افتقارنا إلى ممارسة أعمالنا بنية التعلم ورفع القدرات يعني تحقيق كثير من الخسائر -خسائر مباشرة، خسائر مستقبلية، وفرص بديلة ضائعة لا حدود لها. عندما حرص آباؤنا على الاهتمام بتعليمنا لم يكونوا بحاجة إلى إثبات، ولم يبحثوا عن دليل يؤكد أن التعليم مدخل للرفعة والتغيير وما يعنيه ذلك من القوة الإنتاجية والأخلاقية والاجتماعية والمالية. لكن البعض اليوم يشكك في أهمية التعليم -التعليم النظامي- وتحديدا زيادة عدد أعوام التعلم في الدراسات العليا، وفي جدوى التدريب ورفع المخزون المهاري وأهمية ذلك قيمة وشكلا. والتشكيك لا يأتي صراحة دائما، هناك من يشكك بشكل صريح ومعلن وهناك من يشكك بسلوكه وتقاعسه عن استكمال ما يجب استكماله، لأنه بكل بساطة لا يملك الإيمان الكافي بأن ما يستثمره من وقت ومجهود وأموال في التعلم سيعود عليه بنفع يزيد على مدخلات هذا الاستثمار، وهذا تحديدا هو العائد على التعلم الذي يضيع بشكل مستمر وخطير على كثيرين.
من يراجع ما يكتب في اقتصادات التعليم، يجد أن إثبات تفاصيل هذا الأثر المهم -العائد- مسألة شائكة جدا خصوصا عندما نتحدث عن العائدين الاقتصادي والاجتماعي للتعليم على دولة أو مجتمع ما. هناك عدد كبير من الدراسات على المستوى الدولي خرجت بنتائج مختلفة على مر العقود، وخلاصتها أن التعليم بلا شك له عائد مؤثر في تطور الأمم وهذا من المسلمات التي كانت تخضع من خلال الأبحاث للبرهنة والتفصيل. لكن ما يهمني في هذا المقال هو الحديث عما يسمى العائد "الخاص" على التعليم، أو عائد تعلم الفرد على نفسه ولنفسه، أو كما ذكرت في عنوان المقال "العائد على التعلم". وأقصد به العائد على مجهود التعلم الذي يقوم به الفرد طوعا من تلقاء نفسه، سواء كان بشكل ذاتي أو من خلال برنامج أو سياق محدد مسبقا مثل ما تتيحه المؤسسات التعليمية والمهنية أو أماكن العمل. لذا لو طرحنا السؤال، إلى أي حد يصل العائد على التعلم؟ وهل فعلا "يسوى" الجهد والانتظار في كل الحالات؟
العائد على التعلم عند الفرد مسألة قابلة للإثبات وغنية بالشواهد. أفضل الشواهد ما نراه في اختلاف مستويات الأداء والعطاء والمردود لدى الأقران والأصدقاء، والتباين الذي يتبع ذلك مع مرور الأعوام بين قدراتهم وإمكاناتهم. وسواء كنا نتحدث عن العائد المهاري أو الاجتماعي أو الاقتصادي، فالمعادلة بسيطة جدا: الاستثمار في التعلم يعطي نتيجة إيجابية حتمية. الاستثمار يعادل هنا: الوقت + الجهد + المال والنتيجة هي تحسن في الأداء ينعكس على الشخص بشكل مباشر. كلنا يعرف هذه العلاقة جيدا، لكن أثناء مسيرة بناء القدرات تتعطل بعض الخطوات، والأسباب بلا شك شخصية في الأساس، ومنها ما هو من التأثرات السلبية بالمحيط والمجتمع وربما فجوة في معرفة الواقع بشكله الحقيقي، معرفة الفرص ومكامنها، والإيمان الناقص بالقدرات الشخصية وقدرتها على التحول من حالة معينة إلى حالة أفضل. هناك من يعتقد أنه إذا قرأ كتابا لن يفهم شيئا، وإذا جالس مرشدا لن يستفيد كثيرا وإذا حضر دورة فلن يتعلم جديدا. هناك من يعتقد أن هذه الأنشطة شكلية في معظمها وتفتقد إلى القيمة. وهناك من يبدع في إضعاف حوافزه، فيقول لنفسه: لو تعلمت لن يقدروا ذلك، ولو رفعت من كفاءتي فلن أحصل على الترقية، وهكذا. ومن أحدث الأمثلة التي بتنا نسمعها أخيرا: "لو ادخرت فلن أستفيد شيئا، لماذا أتعلم إذن الادخار وإدارة الأموال؟".
تتحدث الأبحاث عن العائد بشيء من التمثيل العددي القابل للفهم، بعضها يذكر مثلا أن العائد على تعلم عام دراسي واحد يعادل 10 في المائة، وهذا يعني أن استثمار عشرة آلاف ريال في عام دراسي كفيل بصنع عائد مادي يعادل ألف ريال سنويا لبقية حياة الشخص بعد تغطية تكلفة الاستثمار. أعتقد أن الربط المادي المباشر في هذه العلاقة صعب جدا ولا يعكس الحقيقة، فالاستثمار في التعلم لا ينحصر على تكلفة الاستثمار المادية بل يشمل الوقت والانتظار والجهد والفرصة البديلة الضائعة أيضا التي قد تشمل العمل والترقيات كذلك. التعلم خلال عام دراسي لا يمثل كل فرص التعلم المتاحة، إذ توسعت وتنوعت أساليب التعلم بشكل لا مثيل له، تخيل معي تأثير التعلم الإلكتروني في التعلم الذاتي والأساليب المبتكرة الجديدة لكسب المهارات أثناء العمل وخارجه.
العائد على التعلم كبير جدا، رائع ومتسع ولا حدود له، فهو يشمل الأثر المباشر الذي قد يحصل خلال فترة قصيرة نسبيا، مثل نتيجة الحصول على الزمالات المهنية، والأثر التراكمي القابل للنمو على حياة الشخص العملية وغير العملية وهذا غني عن التفصيل والشرح. ويشمل العائد كذلك فتح الفرص الجديدة وتنوع الخيارات التي لن تتاح إلا بتحسين الملف المعرفي والمهاري الشخصي، وهو يشمل كذلك التأثير الممتد في الدائرة المحيطة بالشخص، مثل الأبناء والأقارب، وهم بدورهم قد ينقلون من هذا الأثر لغيرهم ومن ذلك ما ينعكس مرة أخرى على الشخص المتعلم نفسه. القياس مسألة مهمة دائما، وملاحظة النتائج وتوقعها كذلك فن يعكس مهارة التحفيز الذاتي ويطورها، وهذه أيضا مهارة تستحق التعلم ولها عائد مرتفع جدا، لكن، قياس عائد التعلم ليس مسألة رياضية تستوجب البرهنة والإثبات، بقدر الإيمان المطلق بها كمفهوم مقدس وعائد مضمون يجب ألا يفوته أحد.

إنشرها