Author

مبادئ إدارة الابتكار في المؤسسات .. معايير دولية

|

أستاذ هندسة الحاسب في كلية علوم الحاسب والمعلومات بجامعة الملك سعود

تحدثنا في مقالات سابقة عن الابتكار ومدى الحاجة إليه مع تسارع السباق المعرفي والتنافس بين المؤسسات على تقديم معطيات جديدة أو متجددة تحمل قيمة مرغوبة وغير مسبوقة. وذكرنا في هذا المجال أن اللجنة الأوروبية للمواصفات المعيارية CEN التي تضم في عضويتها 33 دولة بدأت عام 2013 بطرح معايير لإدارة الابتكار. والغاية من ذلك هي توجيه انتباه المؤسسات العاملة في المجالات المختلفة إلى أهمية الابتكار من ناحية، وإلى بيان متطلبات إدارته والسعي إلى تفعيله والاستفادة منه من ناحية ثانية. وقد بلغ عدد إصدارات هذه اللجنة من هذه المعايير سبعة إصدارات، تسعى إلى الإحاطة بجوانب إدارة الابتكار المختلفة. وتم طرح الإصدارين السابع والأخير من هذه المعايير عام 2015، وتركز موضوعه على جانب تقييم إدارة الابتكار.
لم يقتصر أمر الاهتمام بالابتكار وإدارته في المؤسسات على اللجنة الأوروبية CEN وإنما انتقل إلى المنظمة الدولية للمواصفات المعيارية ISO، وهي منظمة مختصة تتبع الأمم المتحدة UN، ويبلغ عدد الدول الأعضاء فيها 163 دولة من مجموع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ عددها 193 دولة. بدأت هذه المنظمة إصداراتها في موضوع إدارة الابتكار عام 2019، لكن هذه الإصدارات لم تكتمل بعد ولا تزال مستمرة. وقد شمل أحد هذه الإصدارات طرحا "لمبادئ إدارة الابتكار" كما تراها المنظمة، وعنوان هذا الإصدار هو الأسس والمصطلحات، ورمزه ISO 56000.
بلغ عدد مبادئ إدارة الابتكار في المؤسسات، طبقا لإصدار المنظمة الدولية المذكورة، "ثمانية مبادئ" تمثل في مضمونها المنطلقات المطلوبة لتحقيق الفاعلية في إدارة الابتكار. وسنستعرض هذه المبادئ فيما يلي مع إلقاء بعض الضوء على أهمية الدور المنشود لكل منها. ولا بد قبل ذلك من التذكير بأن المقصود بالابتكار في هذا المجال هو "المنتج أو الإجراء الجديد، أو المجدد بشكل مؤثر الذي يتاح للمستخدمين المستهدفين، ويقدم إليهم فوائد تحمل قيمة".
يهتم المبدأ الأول من مبادئ إدارة الابتكار في المؤسسات بمسألة القيمة Value التي يجب أن يحملها الابتكار، إضافة إلى الجهة المستهدفة بهذه القيمة. أما المبدأ الثاني فينظر إلى قيادة الابتكار Leadership في المؤسسة، ويتطلع في ذلك إلى قيادة تركز على المستقبل Future-Focused، على أن يقترن ذلك بالحماس والجرأة وقبول التحدي، والاستعداد للعمل، إلى جانب التفكير السليم والحكمة في الإدارة والتوجيه. وتشمل مسألة الاستعداد للعمل هنا ليس فقط عمل القيادة ذاتها، وإنما قدرة هذه القيادة على تفعيل إمكانات العاملين وتحفيزهم على الابتكار والعطاء والعمل الدؤوب.
ونأتي إلى المبدأ الثالث الذي يركز على مسألة تحديد التوجه الاستراتيجي للابتكار Strategic Direction في المؤسسة. فهذا التحديد يتطلب توافقا على أهداف الابتكار بين أصحاب العلاقة في المؤسسة، كما يحتاج أيضا إلى التعرف على المصادر المتاحة التي يمكن أن تدعم الابتكار المنشود. ولا بد هنا أيضا من ملاحظة الحاجة إلى التجانس والانسجام بين أهداف المؤسسة العامة، وأهداف الابتكار الذي تسعى إليه، حيث يمكن النظر إلى أهداف الابتكار على أنها في خدمة تحقيق أهداف المؤسسة. ويضاف إلى ذلك ضرورة الاهتمام بوضع أولويات لنشاطات الابتكار المطلوبة في إطار التوجه الاستراتيجي المنشود، مع السعي إلى مراقبتها وتقييم عملها والتأثيرات الناتجة عنها، من أجل بناء خبرة مفيدة للمستقبل. وننتقل إلى المبدأ الرابع وهو مبدأ ثقافة الابتكار في المؤسسة Culture، والمقصود بهذا المبدأ هنا هو تطوير سلوك العاملين في المؤسسة نحو الانفتاح، والاهتمام بالتغيير، والتوافق في ذلك بين الابتكار والتجديد من ناحية، والعمل الفاعل المستمر من ناحية أخرى. وهكذا نصل إلى المبدأ الخامس الذي يختص بالسعي إلى التعمق في الاستفادة Exploiting Insight من المصادر الداخلية والخارجية المتاحة للمؤسسة من أجل تعزيز إمكانات الابتكار المرتبطة بالمؤسسة، وتفعيل بناء المعرفة اللازمة للارتقاء بها والاستجابة لمتطلبات المستقبل.
يركز المبدأ السادس بعد ما سبق على مسألة إدارة العشوائية أو عدم التحديد Uncertainty، أو بالأحرى إدارة المخاطر Risk Management. تحتاج هذه المسألة إلى تحديد المخاطر على الابتكارات، وتقييم احتمالاتها وآثارها السلبية، والاهتمام بشؤون إدارتها للحد من هذه الآثار، والاستفادة في ذلك من التجارب السابقة من ناحية، ومن الفرص المتاحة من ناحية أخرى. ونأتي إلى المبدأ السابع الذي ينظر في مسألة التكيف Adaptability، أي تكيف هيكل المؤسسة ونشاطاتها مع الابتكارات التي تقدمها والتي تسعى إلى تقديمها. ففي ذلك تفعيل للابتكار ومعطياته المستهدفة. ونصل أخيرا إلى المبدأ الثامن حيث يدعو هذا المبدأ إلى استخدام أسلوب الأنظمة Systems Approach في إدارة الابتكار، حيث يجب التعريف بالعناصر المرتبطة بالابتكار، ونشاطاتها، والتفاعل فيما بينها، والأداء القائم حاليا، إضافة إلى التطور أو التحسن المطلوب.
وهكذا نجد أمامنا في المعايير الدولية لإدارة الابتكار في المؤسسات، ثمانية مبادئ تدعو إلى الاهتمام بقضايا تشمل: "قيمة الابتكار؛ وشؤون قيادته؛ وتوجهاته الاستراتيجية؛ والثقافة التي يحتاج إليها؛ واستفادته الفاعلة من المصادر المتاحة داخليا وخارجيا؛ وإدارة المخاطر التي قد يتعرض لها؛ وتكيف المؤسسة مع معطياته؛ إضافة إلى استخدام أسلوب الأنظمة في دراسته وتقييمه وتطويره. وتقوم المنظمة الدولية للمواصفات المعيارية بالاستناد إلى هذه المبادئ في عملها القائم حاليا على وضع معايير تفصيلية لإدارة الابتكار في المؤسسات في إصداراتها المستمرة حول إدارة الابتكار في المؤسسات. وتلقى هذه المعايير عناية خاصة من قبل الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس والجودة التي تسعى إلى تفعيل الابتكار في المؤسسات السعودية عبر الاستفادة من المعايير الدولية من جهة، والاهتمام بما يناسب هذه المؤسسات من جهة أخرى.
ولعل من المناسب أن نستخلص أن على كل مؤسسة الاهتمام بالابتكار وحسن إدارته في شؤون عملها. ولا يجب النظر إلى هذا الاهتمام على أنه إضافة تجميلية، وإنما على أنه ضرورة من ضرورات هذا العصر. ولا شك أن المؤسسات الأكثر قدرة على تقديم مبتكرات ناجحة في المستقبل ستكون في مقدمة مؤسسات العالم في المجال الذي تعمل فيه.

إنشرها