ثقافة وفنون

الجمهورية الرقمية .. صناعة سلوكيات جديدة

الجمهورية الرقمية .. صناعة سلوكيات جديدة

أصبحت التكنولوجيا تدريجيا جزءا أصيلا في الحياة اليومية، فدائرة القادرين على الاستغناء عنها في انحصار مستمر، مع كل تطور تكنولوجي جديد يفرض نفسه على الإنسان. وتفيد توقعات الخبراء بأن يحمل العقد الجديد - الذي نعيش أول أيامه - تطورات هائلة في مجال الابتكار الرقمي، تهم جميع مناحي الحياة المعاصرة في أدق تفاصيلها، ذلك استنادا إلى العناية اللافتة بالبيانات حول المستخدمين في الأعوام الأخيرة، التي يتوقع أن تترجم إلى استراتيجيات ورؤى قابلة للتنفيذ، تنتج سلوكيات رقمية جديدة.
صار عصيا على كثيرين من بيننا، أن يتخيلوا العيش في حياة، لا بل قضاء يوم واحد فقط، بعيدا عن العوالم الرقمية. نعم، لا تقدر نسبة مهمة في عالم اليوم أن تعيش بلا جهاز هاتف ذكي، ومن دون ركام من التطبيقات المتزاحمة في الأجهزة الرقمية؛ سواء للمحادثة الفورية أو للتواصل الاجتماعي أو للتعبير عن الآراء أو لإرسال بريد أو قراءة صحيفة أو متابعة أحدث المستجدات.
يرى البعض في هذا الأمر نوعا من المبالغة، مستفهما كيف كان الإنسان يتدبر شؤون حياته قبل اختراع كل هذه الأشياء، وحتى بعد ظهورها؛ ولأعوام عديدة، كان حجم ما يتم تداوله عبر الإنترنت محور ارتكاز كل هذه الوسائط الرقمية لا يمثل سوى نسبة 1 في المائة من إجمالي حجم المعطيات المتداولة؟ الإجابة ببساطة، أن الوضع مختلف، فحتى زمن قريب كان هذا العالم افتراضيا بما تحمل هذه الكلمة من معنى؛ حين كانت جولات الفرد فيه معدودة بالدقائق، ثم يعود إلى حياة الواقع المادي الاجتماعي، أما اليوم فقد قُلبت المعادلة، بسبب الهجرة إلى العالم الرقمي، لدرجة أضحى فيها الافتراضي هو الذي يتحكم ويضبط إيقاع سير الحياة الواقعية.
قد لا تشكل الدقيقة وقتا يذكر بالنسبة إلى كثيرين خلال وقت العمل، فبالكاد تكفي 60 ثانية لإجراء محادثة سريعة مع زميل العمل، أو تأمل بنظرات فاحصة لما يحيط بنا في قاعة للجلوس، وكثير هم من يستغلونها من أجل التقاط الأنفاس؛ من اكتظاظ المرور، عند انتظار الإشارة الضوئية. إلا أنها تعني الكثير في عالم الإنترنت؛ فآخر التقارير المتخصصة في رصد نشاط الأشخاص على الإنترنت، يفيد بأن هذه المدة القصيرة تشهد كما من الإجراءات.
في دقيقة واحدة خلال العام الماضي، قام موقع جوجل بمعالجة 3.8 مليون سؤال، وإرسال 188 مليون رسالة عبر البريد الإلكتروني، ومشاهدة 4.5 مليون مقطع فيديو عبر موقع يوتيوب، وعبر تطبيق واتساب إرسال 39 مليون رسالة، وأكثر من 2.6 مليون رسالة عبر تطبيق ماسينجر. وسُجل مليون دخول إلى موقع فيسبوك، وتم فيها مبادلة 18.1 مليون رسالة نصية قصيرة، ونشر 484 ألف تغريدة على موقع تويتر، ومشاهدة 695 ألف ساعة عبر "نتفليكس"، وتنزيل 390 ألف تطبيق، وتصفح 348 ألف صورة على موقع إنستجرام، وإنفاق 996 ألف دولار في التسوق عبر الإنترنت. ندع مجريات التفاصيل جانبا، لننظر إلى عالم الإنترنت على مستوى الماكرو، فوفق أحدث الإحصائيات التي تعود إلى مستهل الشهر الجاري، تجاوز عدد أعضاء "الجمهورية الرقمية" في العالم 4.43 مليار شخص؛ وهو ما يعادل نسبة 59 في المائة من مجموع سكان الكرة الأرضية، يقع نصفهم تقريبا في القارة الآسيوية. كان أول موقع أنشئ على الإنترنت في العالم عام 1991، من قبل الفيزيائي البريطاني تيم بيرنرز لي، فيما يقترب العدد اليوم من نحو مليارين. بلغ متوسط ما يقضيه المستخدم على شبكة الإنترنت عالميا ست ساعات ونصف في اليوم؛ ما يعني أن المجتمع الرقمي العالمي أمضى أكثر من 2.2 مليار ساعة على الشبكة في عام 2019. ويتربع التيلانديون على قائمة الأفراد الأكثر قضاء للوقت عبر الإنترنت بمتوسط يصل إلى تسع ساعات، 36 دقيقة كل يوم، متبوعين بالفلبينيين بفارق عشر دقائق، وجاء البرازيليون في المركز الثالث بمعدل تسع ساعات، 14 دقيقة كل يوم. عربيا؛ تحتل مصر الصدارة، بمتوسط ثماني ساعات وعشر دقائق، تليها الإمارات بمعدل سبع ساعات و49 دقيقة، فالمملكة العربية السعودية ثالثة بما قدره ست ساعات و45 دقيقة كل يوم في تصفح الإنترنت.
تبقى هذه الأرقام مرشحة للارتفاع في العقد الجديد، خاصة بعدما اتضح أن الاتجاه العام في استخدام الأجهزة رجح منذ 2017 كفة الهواتف المحمولة أمام أجهزة الحاسوب المكتبية؛ فنسبة 63 في المائة يتصفحون النت من خلال الهواتف، ويرجح أن يستمر هذا الاتجاه في الأعوام المقبلة، حيث يتم تصميم الهواتف المحمولة بقدرات وميزات محددة أكثر من أي وقت مضى. هناك تساؤل عادة ما يتجاهله الباحثون المعجبون بمزايا وأفضال الثورة الرقمية، يتعلق بالمحتوى المعرفي الذي يدور في هذه المنصات؟ فكثير من رواد العوالم الافتراضية يصابون بما يمكن تسميته "وهم المعرفة"، حين يظنون أن ما يقدم/ يتداول في وسائل التواصل الاجتماعي من "معارف"، يكفي للخروج بتصورات مستوفاة عن القضايا والأحداث المعاصرة. كان ماكس فيبر على حق، حين جزم بأن عالم الغد سيكون تقنيا بامتياز، لكن استشرافه على ما يبدو لم يذهب في هذا الاتجاه مطلقا، وإلا لسارع إلى دق ناقوس الخطر بشأن ثورة الإنترنت، والانتشار الواسع للتكنولوجيا الرقمية بمصادر لا حصر لها لإلهاء الإنسان والاستحواذ عليه، لدرجة لم يتردد فيها البعض بوصف هذا العصر بأنه "عصر التشتيت" أو "عصر الإلهاء".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون