Author

«إنها أحسن الأوقات وإنها أسوأ الأقوات»

|
أستاذ جامعي ـ السويد


قد يذكر عنوان مقالنا لهذا الأسبوع محبي الأدب العالمي من قرائنا الكرام بالجملة الشهيرة التي يستهل بها الكاتب الإنجليزي تشارلز ديكنز روايته ذائعة الصيت "قصة مدينتين" التي نشرها منتصف القرن الـ19 ولا تزال تحتفظ بشعبية كبيرة على مستوى العالم.
خطرت هذه الجملة في بالي ورددتها عندما سألني زميل له فائض من المال وأراد استثماره في شراء الأسهم. وعند سؤاله إن كانت الجملة هذه مثالا شائعا على ألسنة الناس، قلت: "كل قارئ للأدب العالمي والإنجليزي منه بصورة خاصة لا بد أن يعرفها".
قال: "ما دلالتها وعلاقتها بالاستثمار في سوق الأسهم؟" قلت: "إن استثمرت قد تكون محظوظا جدا كما كان تقريبا كل من استثمر في الأسهم في الأعوام الأخيرة؛ أو قد لا يحالفك الحظ وتكون غير محظوظ".
قال: "هل تقف مع الشطر الأول من الجملة أم شطرها الثاني؟" قلت: "أميل صوب الشطر الأول لكن الله أعلم".
أغلب التوقعات للعام الحالي، ونحن ما زلنا في شهره الأول، تنحو صوب الحث على الاستثمار في سوق الأوراق المالية. ويأتي هذا رغم أن أسعار الأسهم وصلت إلى معدلات غير مسبوقة جعلتها غالية الثمن جدا.
لنلق نظرة سريعة على أسعار الأسهم. ما سنلاحظه هو أن سوق الأوراق المالية دشنت عهدا من الانتعاش والصعود إلى درجة بلوغ القيمة السوقية لبعض الشركات الرقمية الأمريكية العملاقة عتبة التريليون دولار.
في العام الماضي بلغ معدل ارتفاع "وول ستريت" 29 في المائة. وإن أخذنا القيمة السوقية لأربع شركات رقمية صاحبة أغلى الأسهم وهي أمازون وأبل ومايكروسوفت وجوجل -ألفابت– سنرى أنها تساوي نحو أربعة تريليونات دولار.
ماذا ينتظر هذه الشركات الأربع التي هناك فقط أربع دول في العالم تبلغ قيمة ناتجها القومي الإجمالي أكثر من قيمتها السوقية وهي أمريكا والصين واليابان وألمانيا؟
لقد شهد العام الماضي دخول شركة عملاقة أخرى إلى سوق الأوراق المالية بصورة جزئية لكن مع وقع غير مسبوق حيث لامست قيمتها السوقية في فترة قصيرة عتبة تريليوني دولار وهي الآن تساوي أكثر من 1.7 تريليون دولار رغم الأوضاع الجيوبوليتيكية غير المستقرة في الشرق الأوسط.
هنا أتحدث عن "أرامكو"، وإن عرفنا أن هناك فقط تسع دول في العالم تبلغ قيمة إنتاجها القومي الإجمالي أكثر من "أرامكو" لصار جليا لدينا ما تمثله هذه الشركة الكبيرة من مكانة على المستوى الاقتصادي العالمي وما ينتظرها من مستقبل لو دخلت السوق من أوسع أبوابها.
وصار لأسهم بعض الشركات جاذبية تتحدى فيها المسيرة المنطقية لمؤشر الأسعار. خذ مثلا شركة تيسلا التي باعت 360 ألف سيارة فحسب في العام الماضي وقارنها بشركات عريقة مثل فورد وجنرال موتورز اللتين باعتا نحو 14 مليون سيارة في العام ذاته.
مع كل هذه الفروق المهولة في الإنتاج والبيع فإن القيمة السوقية لشركة تيسلا التي تبلغ حاليا 85 مليار دولار هي أكثر من القيمة السوقية لشركة فورد وجنرال موتورز مجتمعتين.
وإن ألقينا نظرة سريعة على وسائل الإعلام بصورة عامة ولا سيما في الولايات المتحدة سنرى أنها مليئة بالأمثلة والقصص التي تظهر الأعداد الكبيرة من الأمريكيين الذين صاروا أصحاب ملايين من خلال استثمار أموالهم في أسواق الأوراق المالية.
تمتلئ صفحات الجرائد وشاشات الإنترنت والتلفزة بالخطوط البيانية والجداول والتصاميم التي تبين كيف أن وضع مبلغ 50 ألف دولار أو أكثر قبل أربعة أعوام في شركة محددة صار اليوم ربما مليون دولار نتيجة الصعود الذي يبدو لا نهاية له في قيمة الأسهم.
وتشير البيانات إلى أن الاستثمار في الأسهم وهي في حالة صعود أكثر إيرادا وربحا من الاستثمار في الأسهم وهي في حالة انهيار.
وهناك مقاربات ومقارنات بين مردود الاستثمار في سوق الأسهم ومردوده في الودائع المصرفية أو السندات. وتظهر الإحصاءات أن البون شاسع كما بين الأرض والسماء، حيث لو بقي مبلغ 50 ألف دولار كوديعة في المصرف قبل أربعة أعوام لخسر من قيمته الشرائية بسبب التضخم، بينما تضاعف عشرات المرات عند وضعه في الأسهم.
هل ستكون الفترة المقبلة أحسن الفترات كسابقتها بقدر تعلق الأمر بسوق الأسهم؟ هل سيصبح صاحبي مليونيرا لو استثمر ما لديه من مال في سوق الأسهم بناء على ما جرى في الأعوام الأربعة الماضية؟
كل ما نعرفه أن الأسهم خصوصا أسهم الشركات الأمريكية، تسيل لعاب المستثمرين، لكن لو نظرنا بتعمق وفكرنا مليا في المنحنى الذي اتخذته الأسواق المالية في الـ100 عام الماضية، لرأينا أن "وول ستريت" احتفى مرتين على الأقل بما يحتفي به الآن من انتعاش وصعود: الاحتفاء الأول كان عام 1929 والثاني كان عام 1999.
أما ما حدث بعد هذين العامين، فأترك تقييمه للقارئ.

إنشرها