Author

مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى


التخطيط الاستراتيجي يعتمد ابتداء على تحديد القضايا الرئيسة والأهداف ثم المخاطر ثم التحديد الواضح الدقيق لمناطق القوة والتهديدات التي تشكل بعض المزايا التنافسية النسبية التي يجب استثمارها، كما يتم رصد التهديدات وتحويلها إلى فرص. هذا التخطيط الاستراتيجي كمفاهيم ومبادئ يمكن أن يجده القارئ في أي موقع أو "يوتيوب" يشرح في دقائق مختصرة أو يتوسع في كتاب مدرسي كبير، لكن الممارسة شيء مختلف ويصعب أن تجد تطبيقا صريحا لهذا الفكر بكل جمالياته، فوقائع التطبيق تشير إلى مشكلتين، إحداهما تأتي من التعامل - الاستعجال - عند هذه المرحلة المهمة، فلا يتم تحديد القضايا الرئيسة التي حفزت أصحاب المصلحة الرئيسين للتضحية بالموارد، وتتم صياغة الأهداف دون ترو، وتحديد نقاط القوة والضعف والمزايا التنافسية بشكل يشبه العصف الذهني غير المنضبط. والمشكلة الأخرى، أن ربط المبادرات التنفيذية بهذه الخطوة غير واضح، وتجد المزايا النسبية في عالم، بينما المبادرات في عالم آخر، وهكذا تصبح الخطط الاستراتيجية مجرد لوحات ضعيفة فنيا. لذا، أعود فأقول: إن وجود ممارسات حقيقية للتخطيط الاستراتيجي المنضبط والجاد، يعد فرصة كبيرة لتقديم نموذج يحتذى، وهذا تقدمه لنا رؤية المملكة 2030 من وقت إلى آخر، وما حدث قبل أيام من مباركة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز لتأسيس مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، والتوقيع على ميثاق المجلس، يعطينا هذا المثال الناصع على التخطيط المستند إلى نقاط القوة والتميز ثم العمل الجاد على مبادرات تحقق أفضل استثمار.
عندما تم إطلاق رؤية المملكة 2030، تم وضع ثلاث مزايا نسبية للمملكة تعد مرتكزات لـ"الرؤية"، وهي أن المملكة قلب العالمين العربي والإسلامي، ولديها قوة استثمارية هائلة، وتحظى بموقع استراتيجي يربط ثلاث قارات هي إفريقيا وآسيا وأوروبا، وقد أطلقت بناء على هذه المرتكزات عدة مبادرات من بينها "نيوم" ومنتجعات البحر الأحمر والتطوير الكبير لمطار الملك عبدالعزيز الدولي في جدة، لكن أهمها وأكثرها ملامسة لمرتكزات "الرؤية" هي هذه الرعاية المباركة من الملك سلمان لإنشاء مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، ففي هذا المجلس تلعب المملكة دورا سياسيا واقتصاديا في غاية الأهمية، وهو في الحقيقة امتداد طبيعي لدورها الإقليمي القوي، لكن إنشاء هذا المجلس وتوقيع الاتفاقية في الرياض له دلائل مهمة.
فمن الجانب السياسي، فإن هذا المجلس، ومقره الدائم في المملكة، يعد تمثيلا سياسيا كامل الأركان للدور المهم الذي تقوم به المملكة باعتبارها قلب العالمين العربي والإسلامي وتقودهما في المحافل الدولية كافة، فهذه الدول المطلة على البحر الأحمر دول عربية في معظمها، وإسلامية كذلك، وتحقيق التوافق وترتيب الأولويات في هذا المجلس يحقق للمملكة امتدادها السياسي المهم في دول إفريقيا، خصوصا بعد كثير من الاضطرابات التي عمت المنطقة، فالمملكة بحكمتها وخبرتها يمكنها أن تدعم هذه الدول وتسهم في تحقيق استقرار دائم من خلال تعاون مثمر ومستدام. وقد أثبتت الأحداث السياسية الأخيرة، بدءا من توقيع اتفاقية السلام بين إثيوبيا وإريتريا، وما تم بشأن عودة الاستقرار في السودان بعد موجة الاضطرابات هناك والدعم الكبير من المملكة لها، وأحداث اليمن بكل أبعادها السياسية، تشير إلى أهمية حاجة هذه الدول إلى أن ترفع مستوى التعاون مع المملكة إلى مجلس قادر على منح كثير من الغطاء التشريعي والسياسي الضروري كي تعمل المملكة على تحقيق سلم وأمن دائمين في المنطقة، خاصة منطقة البحر الأحمر التي تمر من خلالها تجارة العالم، كما أن هذه الخطوة المهمة ستقطع الطريق تماما على من يريد استغلال المنطقة لتمرير أجندته السياسية مستغلا حاجة شعوب هذه الدول إلى فرص العمل.
في الجانب الاقتصادي، فإن تجربة مجلس التعاون الخليجي قد حققت كثيرا من النجاح للدول الأعضاء، وهذه التجربة يمكن للمملكة أن تحققها مرة أخرى في منطقة البحر الأحمر، خاصة أن الدول المطلة ذات إمكانات اقتصادية كبيرة، لكنها بحاجة إلى مزيد من التعاون وتبادل الخبرات، كما أن التعاون في المجال الاقتصادي يحقق للمملكة الربط بين القارات الثلاث، ومرورا اقتصاديا أكثر سهولة إلى إفريقيا، كما يحقق للدول الإفريقية ممرات آمنة للعالم في الشرق. هذا كله يمكن أن يتم من خلال بناء موانئ كبيرة على البحر الأحمر تربط القارتين بقدرات هائلة، كما أن في تنمية هذه المنطقة وتحقيقها مستويات عالية من النمو الاقتصادي سيحقق للعالم كثيرا من النتائج الاقتصادية المهمة، فتوفير الوظائف سيحد من الهجرة، ومن فرص الجهات الداعمة للإرهاب أن تجد في حاجة شباب هذه البلاد إلى العمل فرصة لتحقيق مآربها.
لقد استطاعت دول إفريقيا خلال العقد الماضي تحقيق مستويات عالية من الاستقرار والأمن بعد عقود من الصراعات، وهذا الاستقرار مكن كثيرا من هذه الدول كي تحقق أفضل أداء اقتصادي في العالم، فقد حققت إثيوبيا - مثلا - نموا بأكثر من 8 في المائة خلال عام 2018، أكثر بكثير من الصين والهند، وتدفقت الاستثمارات إليها بشكل لم يسبق له مثيل، لكن المذهل في الأمر أن إثيوبيا ليست استثناء، بل ضمن كوكبة الدول الإفريقيا التي حققت نسبا تفوق 7 في المائة، مثل السنغال وأوغندا، وحققت جيبوتي أكثر من 6 في المائة، لذا فإن الانفتاح على هذه القارة اليوم يمثل خطوة استراتيجية في غاية الأهمية، وجاء المجلس ليضع هذه الخطوة في مسارها الصحيح، ويمنح البحر الأحمر من هذا التاريخ أهمية لم يشهدها أبدا.

إنشرها