Author

هل نلوم النص أم المتلقي؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد


أثارت سلسلة المقالات حول ماهية النص وتنظيره وتطبيقه، تساؤلات من عدد غير قليل من قراء عمودنا هذا.
أغلب هذه التساؤلات، رغم الثناء الذي تخللته، كان فيها نقد ظاهر ومستتر، تركز على رجحان كفة التنظير في هذه المقالات على كفة الممارسة.
وأرى أن النقد في محله. لقد طغى التنظير في الحديث عن وظيفة النص في حياتنا وتكويننا وتشكيلنا ثقافيا واجتماعيا، مقابل أمثلة قد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.
لا أريد الاتكاء على أي تبريرات أو اعتذارات لعدم مقابلة التنظير بالممارسة – لأن القراء محقون في نقدهم – لكن تناول أي تحليل نقدي لأي نص حتى إن كان خبرا في صحيفة يومية، قد يثير من الشجون ما لم يكن في الحسبان.
لدي تجربة فيها بعض المرارة في مضمار نقد النصوص الإعلامية. رغم أن التحليل النقدي كان ذا طابع أكاديمي، الذي في معظم الأحيان يكون محدود النشر والتداول، فإن وقعه صار محسوسا فيه ردة فعل سلبية حال أن وقعت عيون المستهدفين عليه.
وقلما نعلم أن النص، وإن كان مهملا، فإن الحياة تجري في عروقه. وقلما نعلم أن قلب النص يبدأ بالخفقان السريع من الفرح في اللحظة التي نلتجئ إليه. وقلما نعلم أن النص يبتسم لنا بغض الطرف عن الوجهة أو الغاية أو السبب الذي دعانا إلى قراءته. النص مثل الفيء الذي يقبل كل من يستظل به.
ومن منا في إمكانه التبجح بأنه يستطيع العيش دون النص وفيئه؟ هنا لا أقصد فقط مليارات البشر، التي لها نصوص تراها أزلية. كلنا ومن أي طينة أو فكر أو ميل أو فلسفة كنا، شئنا أم أبينا، نبحث عن فيء النص.
والنصوص ليست متساوية التأثير في حياتنا، لكنها تؤثر ولو بمقادير ودرجات مختلفة.
في بحثي عن الخطاب الديني وتأريخيته، وقعت عيناي على عشرات وعشرات الأمثلة من النصوص التي كانت سببا ليس للكمد الذي يؤدي بصاحبه إلى الموت البطيء، بل إلى القتل والحرق والتدمير.
ألم نقرأ كيف أن شخصا ذا سلطان يتحول إلى مثابة نص انتهاكه "أي التقليل من شأنه"، ربما يؤدي به إلى التهلكة؟
إذن، ليست النصوص الأزلية فحسب التي قد يؤدي عدم التشبث اللفظي بقدسيتها إلى ما قد لا يحمد عقباه، بل نصوص كثيرة أخرى قد ترقى قدسيتها لدى أصحابها إلى درجة قدسية النصوص الأزلية لدى المؤمنين بها أو ربما أكثر.
قد يحدث في بلد ما أن يزدري شخص نصا يراه الآخرون مقدسا وينجو بجلده، لكنه قد يلاقي الويل لو أهان علم بلاده "والعلم نص حسب تعريفنا".
والنص في حالة تشظية كما قلنا، لا بل من دون التشظية قد يفقد خاصية كونه نصا.
ونزيد ونقول، إن التشظية التي أشبعناها نقاشا في الأسبوع الفائت، ترتبط في لغات اشتقاقية مثل العربية – فيها الرفع والضم والكسر قد يكون له مدلولات عميقة – بطريقة نطقنا أو لفظنا للنص.
ألم تكن مسألة اللفظ سببا في معاناة واحد من أهم الشخصيات في التاريخ العربي والإسلامي، ألا وهو الإمام البخاري؟ لن أدخل في تفاصيل المحنة الكبيرة التي نالت الإمام الكبير، الذي يعزو بعض المؤرخين موته بسببها، لكن الحادثة الأليمة هذه تظهر لنا جليا أن اللوم يقع علينا نحن المتلقين وطريقة تعاملنا مع النص، وليس على النص ذاته.
نحن نتشظى لأننا نقرأ النص "ونلفظه" حسب ميولنا وثقافتنا وتاريخنا وزماننا.
والنص، الذي ساقت بموجبه المؤسسة الدينية في حينه العالم جاليليو إلى المحاكمة – لأنه رأى ظاهرة فلكية عكس ما يراه الناس، والنص الأزلي لديهم – باق كما هو حتى يومنا هذا. كان للنص في حينه قراءة محددة، وصارت له اليوم قراءة أخرى. المؤسسة والناس تقبل النص كما يرد، وتقبل اكتشاف جاليليو الذي يعاكس النص أيضا.
نحتاج إلى قليل من التاريخ والتعمق والاستقصاء كي نرى كيف أن النص ثابت، وكيف أن النص يحتفي بتشظيته سعيدا بهيجا، وكيف أننا نلوم أنفسنا على عدم مجاراتنا للنص وتحمل تشظيتنا كما قبلها وتحملها النص على مر العصور.
الزمن كفيل بتبيان قصورنا نحن البشر في تفكيك النص. نفكك النص في أغلب الأحيان كما يحلو لنا، ونجري وراء القراءات التي تميل صوبنا.
وحال تغير ميولنا وثقافاتنا وواقعنا الاجتماعي، نلهث وراء النص مرة أخرى ونسبغ عليه قراءة لمواءمة حالنا.
النص يرحب بنا في أي حال كنا؛ نحن المتلقين لا نرحب بتشظيتنا كما النص. ومن هنا، يقع اللوم علينا. ومن هنا، نعلن براءة النص مما نقترفه بحقه.

إنشرها