Author

النمو العالمي فزاعة عام 2020

|
كاتب اقتصادي [email protected]


"لا تزال توقعات الاقتصاد العالمي بطيئة وغير مؤكدة"
كريستين لاجارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي

لن يتوقف الحديث عن النمو العالمي والمخاطر التي يواجهها في العام الجديد. فالأجواء غير مبشرة، وهناك كثير من العوامل التي تعزز الاعتقاد لدى الأوساط المتشائمة، بأن حالة عدم اليقين في هذا الاقتصاد ستستمر، وأن المشكلات التي كانت عالقة في العام المنصرم لن تشهد حلولا جذرية، وأن التفاهمات الضرورية بين الدول المؤثرة في الساحة العالمية، لم تصل بعد إلى المستوى المطلوب، وأن التوتر الاقتصادي حاصل بالفعل حتى بين الدول الحليفة. والنمو يمثل حجر الزاوية بالنسبة للاقتصاد العالمي الآن على وجه الخصوص. فقد خرج للتو من براثن أزمة اقتصادية عالمية، هناك إجماع من قبل كل الجهات المهتمة بالشأن الاقتصادي، بأن العالم لن يتحمل حتى نسبة بسيطة من أزمة اقتصادية ممكنة الحدوث.
والنمو العالمي أيضا، يمثل بحد ذاته حالة ضرورية لتعزيز الثقة بالاقتصاد. ويدعم الاستثمار، ويوسع ساحات الابتكار، ويخفض معدلات البطالة، ويطرح فرصا جديدة للعمل، بل ويطلق ميادين جديدة له. كما أن النمو المعقول، يخفف من وتيرة ارتفاع حجم الديون السيادية وغير السيادية التي باتت تمثل بعض الأرق على الساحة الاقتصادية، خصوصا في ظل التسهيلات المتصاعدة للإقراض هنا وهناك، ناهيك عن سياسات التيسير المالي التي باتت حجر الزاوية في أغلبية الاقتصادات حول العالم. ومن هنا، يسود التوتر هذه الساحة بشأن النمو، دون أن ننسى، أن الاقتصاد العالمي كاد أن يدخل مرحلة الركود في العام الماضي، لولا بعض السياسات الاستثنائية التي اتخذتها أغلبية الدول، لمنع الوصول إلى هذه الحالة المخيفة. وهي مخيفة، لأن أركان الاقتصاد العالمية لا تزال هشة، ولا تتحمل هزات جديدة.
بالطبع الجميع ينظر إلى الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين على أنها أحد العوامل التي عززت حالة عدم اليقين على الساحة العالمية. وهذا صحيح إلى حد بعيد، لكن هذه الحرب ليست السبب الوحيد، دون أن ننسى أن هناك علامات مؤكدة على إمكانية توقفها نهائيا في الأشهر الأولى من عام 2020، ولا سيما في أعقاب الإعلان عن التوصل إلى اتفاق جزئي بين أكبر اقتصادين في العالم. إلى جانب هذه الحرب المتراجعة بعض الشيء، هناك مجموعة من العوامل التي تستهدف النمو، والحراك الاقتصادي العالمي بشكل عام. من بينها الديون المتعاظمة. قد لا تكون هذه الديون في الوقت الراهن في طريقها نحو الفقاعة، لكنها لا تتوقف عن الارتفاع، ما يهدد مرة أخرى الاستقرار الاقتصادي العالمي الهش.
العوامل المحبطة كثيرة، منها، مثلا، تأخر إدخال الإصلاحات اللازمة لمنظمة التجارة العالمية. وهذه النقطة على وجه الخصوص توفر أرضية صلبة للاقتصاد العالمي إذا ما تحققت بالفعل في الفترة المقبلة. والإصلاحات المطلوبة لا تنحصر فقط بمظلومية هذا البلد أو ذاك في الحراك التجاري، أو بقوانين صارت لا توائم المتغيرات على هذه الساحة، بل تشمل أيضا ارتفاع مستوى الحمائية هنا وهناك، بل شهدت الساحة في الآونة الأخيرة سلسلة من الاتهامات المتبادلة حيال خفض قيم العملات الوطنية. هذه العوامل وغيرها، هي التي تتسيد المشهد الاقتصادي العالمي حاليا، في ظل رعب متصاعد من مغبة "التقدم" نحو أزمة اقتصادية جديدة، قائمة على ما يمكن وصفه بـ"عدم التوافق الدولي"، أو على "التوجه نحو الحمائية الخطيرة".
النمو الاقتصادي العالمي سيظل ضعيفا حتى لو تمت التفاهمات الحقيقية بين الدول المؤثرة، ولا يمكن أن يتماسك إلا بإصلاحات جذرية في كل المجالات، بما في ذلك إعادة صياغة فهم التيسير المالي، والكشف عن أن الحمائية لا توفر ضمانات مستدامة لأولئك الذين يلجؤون إليها، وأن الديون يمكن أن تنفجر في أي لحظة لتشكل الفقاعة ــ المصيبة. وغير ذلك من المشكلات التي ستنشأ بصورة متواصلة جراء غياب التفاهم العالمي المطلوب. في الاتحاد الأوروبي "مثلا" احتفظ النمو بضعفه الشديد، ووصل ارتفاع إجمالي الناتج المحلي في منطقة اليورو نسبة 0.2 في المائة. وتؤكد المفوضية الأوروبية، أن ذلك يرجع لعوامل عالمية، وليس أوروبية فقط. بالطبع هذا صحيح نتيجة الترابط الاقتصادي الدولي.
والأمر ينطبق على كل المناطق الأخرى بدرجات متفاوتة. فتراجع النمو يضرب حتى اقتصادات الدول الآسيوية التي كانت مثالا لنمو مضمون ومتصاعد. في النهاية لا مجال أمام هذا العالم سوى التوصل إلى اتفاقات دولية أكثر قوة وصمودا، وأكثر قدرة على مواجهة المتغيرات. لقد أثبتت التجارب السابقة منذ مطلع القرن الحالي، أن السياسات المتشددة والمواقف المتصلبة تضر أيضا أولئك الذين يتخذونها، كما أنها تؤذي العالم عبر تعطيل أي استراتيجية محتملة يمكن الارتكاز عليها من أجل التنمية والتطوير، والسلاسة الاقتصادية. في الاقتصاد لا يستطيع أحد العيش منعزلا. إنها حقائق التاريخ والواقع المعيش. وعلى الرغم من التباين في بعض المصالح الاقتصادية بين هذا الطرف أو ذاك، يمكن التوصل إلى تلك الاتفاقات التي تنتظرها كل الشعوب. فهذه الأخيرة ستبقى متذكرة ما دفعته من تكاليف باهظة بسبب الأزمة التي انفجرت قبل عشرة أعوام فقط.

إنشرها