Author

تأثير مكان الولادة في الدخل

|


لا يخفى على أحد أهمية دراسة تحولات الدخول والتعليم والثروات والظروف الصحية والعلاقات الاجتماعية بين الأجيال المتعاقبة. ويتطلب تحقيق درجات أفضل من العدالة الاجتماعية بين الشرائح السكانية والمناطق المختلفة فترات طويلة قد تستغرق أجيالا من الزمن. ونسمع كثيرا عن أشخاص مولودين وفي أيديهم ملاعق من ذهب، وذلك لتمتع أسرهم بثروات ضخمة تضمن غنى الأجيال المتعاقبة فيها. طبعا، الأسر الغنية لديها إمكانات أكبر لتوفير أحوال معيشية راقية لأطفالها، وتوفير لوازم الحياة بكل يسر وسهولة، وترك ثروات كافية لأجيالها القادمة. وتمثل هذه الأسر نسبة قليلة من السكان، وهي مكتفية وغنية وليست هناك حاجة إلى وضع سياسات تخصها. من ناحية أخرى، توجد مؤشرات قوية على تباين دخول الأطفال المستقبلية بين المقيمين في الأحياء الأقل دخلا والأحياء الراقية في المدن نفسها. كما يؤثر نوعية عمل الوالدين وتعليمهما في نوعية عمل الأطفال وأعوام تعليمهم، فيميل الآباء والأمهات الأكثر تعليما واحترافية إلى التركيز أكثر على التعليم والاحترافية. وهذا يؤثر في مهارات وتعليم الأطفال ودخولهم المستقبلية.
في المقابل، يحاول هذا المقال بإيجاز شديد، التعرف على العلاقة بين مواقع الولادة الجغرافية ودخول الطبقة العاملة. ويشير عديد من الدراسات إلى وجود علاقة إيجابية بين الدخل ومكان الولادة الجغرافي داخل دول العالم المختلفة. ويحاول المهتمون بعدالة توزيع الدخل، تحديد العلاقة بين الدخل وأماكن الولادة والتعرف على أسبابها، ومحاولة اقتراح ووضع سياسات معينة للحد من تأثيرها في عدالة توزيع الدخول بين أجزاء الدول المختلفة.
تفيد مقارنة بيانات الدخل - في عدد من الدول العالم - بوجود دلائل شبه مؤكدة على وجود فروقات وتباين واضح بين دخول المولودين في العواصم والمدن الكبيرة ودخول المولودين في الريف والبلدات والمدن الصغيرة. ويؤثر موقع مكان الولادة والمعيشة في متغيرات الحياة بشكل عام، بما في ذلك التعليم والصحة والوظائف والجريمة. ويلعب حجم مدينة الولادة - كما تشير بعض الدراسات - دورا في تحديد مستويات الدخول المستقبلية للأطفال. فمن المعلوم أن المدن الكبيرة تجذب الهجرة إليها لارتفاع الأجور والدخول فيها مقارنة بالتجمعات السكانية الأخرى. وتولد التجمعات السكانية الكبرى أسواقا أكبر وطلبا محليا أقوى على السلع والخدمات، ما يولد بدوره خدمات وصناعات أكثر من الموجودة في المدن الصغيرة والقرى. كما يقود وجود المقرات الرئيسة للحكومات والشركات الكبرى إلى زيادة كبيرة في الإنفاق في هذه المدن ورفع الطلب على العمالة واليد الماهرة وزيادة الأجور مقارنة بالمواقع الأخرى. وينتج عن التجمعات السكانية الكبرى ما يسمى اقتصاديات التكتل، التي ترفع إنتاجية الشركات والعمالة، نظرا إلى ضخامة التجمعات العمالية وتوافر المهارات والخدمات المساندة واستغلال المدخلات بشكل أفضل.
من جهة أخرى، يرى بعض المختصين أن الخصائص الفردية تختلف بين سكان المدن الكبيرة وسكان المدن الصغيرة والريف، وهي التي تقف خلف فروقات الأجور، أي أن العمالة الأكثر إنتاجية تجذبها المدن وتستقر فيها. لكن هذا يتنافى مع الاعتقاد الشائع بجلَد المزارعين ومثابرتهم على العمل ساعات طويلة في كثير من دول العالم. لهذا، قد يكون التعليم والتدريب الأفضل المتوافر في المدن هو السبب الرئيس في إحداث فروقات الأجور، حيث توجد في المدن مؤسسات تعليم أفضل، كما يمكن الحصول على خبرات عمل أفضل بكثير من المدن الصغيرة والريف، بسبب توافر شركات ومؤسسات إنتاجية أكبر وأكثر إنتاجية. وقد يكون لتوافر الطلب بدرجة أكبر في المدن الكبيرة الدور الأبرز في زيادة أنشطة الأعمال واكتساب خبرات عمل أفضل عند قاطني المدن الكبيرة.
يقف مكان الولادة - إلى حد كبير - خلف تحديد مكان الدراسة والعمل، حيث يميل الأفراد بوجه عام - كما يفيد عديد من الدراسات - إلى اختيار أماكن تعليم قريبة من أماكن ولادتهم. ويفضل كثير من المولودين في المدن الصغيرة والريف، العمل قريبا من أماكن ولادتهم ونشأتهم حتى لو أدى إلى قبول واكتساب أجور ومهارات أقل من العاملين في المدن الكبيرة. ومع أن نوعية التعليم الأساسي في المراحل العمرية الصغيرة متقاربة بين المدن الكبيرة والتجمعات السكانية الصغيرة، إلا أن معظم الفروقات تحدث في نوعية التعليم العالي أو المهني، خصوصا المتعلقة باكتساب مهارات العمل. من جهة أخرى، يمضي سكان المدن الكبيرة أعواما أكثر في التعليم، ما يراكم الموارد البشرية في المدن الكبيرة. إضافة إلى ذلك، تتوافر مؤسسات تعليمية في المدن الكبيرة أكثر عددا وجودة، ما يكسب المنتسبين إليها مهارات أفضل تؤهلهم للحصول على وظائف أعلى دخلا. وتوجد في المدن الكبيرة عادة وظائف أفضل دخلا بسبب تركز الأعمال، ما يعطي أفضلية للمقيمين في المدن الكبيرة. ولا تتطرق التحليلات العلمية كثيرا إلى ترتيبات الأعمال والصلات في الحصول على الأعمال، حيث يميل كثير من الناس إلى استخدام العلاقات بين الأفراد والأسر للحصول على أعمال، ما يعطي أفضلية للمقيمين في المدن الكبيرة للحصول على أعمال فيها أكثر من القادمين من خارجها.

إنشرها