Author

صراع النص مع ذاته

|
أستاذ جامعي ـ السويد


في رسالة يوم الجمعة الفائت قدمنا بإيجاز شديد كيف أن "النص" يحتلنا ويأخذنا جيئة وذهابا إن ثبتنا على الميل الذي نحن عليه أو زغنا عنه. وعلى الرغم من أن التقديم كان مقتضبا، وهو أقرب إلى النظرية من الممارسة، أظن في إمكان أي واحد منا بعد تأمل ومراجعة اكتشاف كيف أننا نقع في مصيدة النصوص التي نتكئ عليها.
الموضوع شائك وعويص ويتطلب العقلنة وليس الحرفية لاستيعابه، ولهذا أعد القراء أن أعرج عليه لتقديم مزيد من التوضيح والشرح من خلال أمثلة من واقع حياتنا.
لنركز في مقال اليوم على النص ذاته ونحاول ولوج عالمه دون التطرق إلى المتلقي قدر المستطاع، رغم أن النص لا يعيش لذاته؛ بمعنى آخر، النص يقفز إلى الحياة حال تماسه مع محيطه أو سياقه.
لنأخذ مثالا بسيطا وهو مفردة "أسود" هذه المفردة، دون سياقها، يبقى تأثيرها محدودا أو ربما معدوما. في اللحظة التي نضعها ضمن سياق محيطها، تدب فيها الحياة.
"امرأة سوداء العينين تساوي عيناها عصرا" ليس مثل "أمة سوداء لم يوافق سيدها على عتقها". انظر كيف يحرك السياق المفردة الواحدة المتشابهة لفظا وشكلا، ويمنحها وجهتي نظر؛ بين الواحدة والأخرى هوة ساحقة.
ونشرح أكثر ونقول إن النص يتشكل، أي يأخذ مساره بواسطة سياقه؛ والسياق أيضا "أي المحيط الذي يمتد إليه نطاق تأثير المفردة" يشكله النص.
وهكذا قد يكون الفرق بين مفردة شائعة في سياقين مختلفين كما الفرق بين الأرض والسماء. انظر مفردة "البقرة" في "سورة البقرة". في النص الأزلي مثلا، للمفردة في سياق الذكر الحكيم حياة أزلية مقدسة في "لوح محفوظ." في السياق الأرضي العادي، منزلتها في توصيف الآخر منزلة غير مقبولة وإن استخدمت قد تؤدي إلى عواقب غير حميدة.
قد يقول قائل، كيف يكون إذا النص في صراع مع ذاته وهو خارج سياقه؟
الجواب ليس سهلا، وبعض فلاسفة اللغة والخطاب ينفون وجود النص خارج سياقه، مؤكدين أن النص تدب فيه الحياة أول ما تدب عندما نضعه ضمن إطار نصوص مقابلة أخرى – داخل جملة مثلا، أو ضمن نص من عدة جمل أو ضمن شمولية النص الذي يرد فيه، أو ضمن الإطار الثقافي العام للزمان والمكان.
وشمولية النص مسألة عويصة أخرى، لكنها ذات علاقة مباشرة بموضوع اليوم الذي يركز على فكرة أن النص في صراع مع ذاته قبل أن يكون في صراع مع متلقيه وقبل أن يكون المتلقون في صراع مع بعضهم بعضا حول النص نفسه.
يأتي النص، أي نص، وفي داخله صراع ومن ثم حال أن يشع علينا "أي عندما نقبل على قراءته" ندخل في صراع معه وهو يدخل في صراع معنا. ونحن نتصارع معه، وإذا بنا ندخل في صراع مع بعضنا حول النص ذاته. وفي أحيان كثيرة يخرج الصراع عن نطاق الحوار إلى الممارسة على الأرض.
والممارسة تختلف باختلاف طبيعة الصراع الذي يبدأ فكريا ثم قد يتحول إلى ممارسة نظام حياة أو حكم أو تشريع محدد أو قد يصل إلى استخدام العنف لتثبيت شق محدد من الصراع مع النص ضد شق آخر من الصراع حول النص ذاته.
حتى الآن، ما زلنا نحوم في الإطار الفكري النظري. هل في إمكاننا تطويع النظرية كي تتماشى مع واقعنا الاجتماعي؟

نعم.. وبسهولة
النصوص التي يكتبها أصحابها على مدار فترة طويلة، فيها صراع مرير مع بعضها. من النادر أن يبدأ مفكر كتابة نظرياته في عمر يافع ويبقيها على حالها وهو قد بلغ من العمر عتيا.
وحتى ضمن نص واحد، كثيرا ما نلاحظ صراعا مريرا بين مفرداته وأطره الخطابية ونحن نقلب صفحاته.
هذا شأن كل النصوص ومنها النصوص التي يراها أصحابها أزلية، التي في كثير من الأحيان ينسخ فيها نص نصا آخر أتى قبله.
ولأن النص في صراع مع ذاته، يصبح من الصعوبة في مكان أن نتفق على قراءته. صراع النص مع ذاته ينعكس علينا، سلبا أو إيجابا، باختلاف المحيط والسياق الذي نحن فيه والميل الذي نحن عليه.
ولأن النص في صراع، فإنه يلبي متطلبات صراعنا داخل أنفسنا أولا، ومع بعضنا بعضا ثانيا.
انظر الدستور الأمريكي، الذي يقال إن كل كلمة فيه مكتوبة بعناية فائقة كي لا يؤدي إلى صراع وشقاق في الأمة الأمريكية. الدستور نص، والنص في صراع والدستور الأمريكي في صراع؛ والصراع هذا لم يكن محسوسا مثل ما هو عليه اليوم.
انظر كيف تمط وتجرجر وتفكك الفرق الأمريكية المختلفة نصوص الدستور التي هي في الأساس في صراع دائم مع بعضها. ولأن النص الدستوري في صراع، فإنه يمنح الفرق المتصارعة مرادها.
وهذا شأن النص، أي نص.

إنشرها