Author

بريطانيا على الموعد الأخطر

|
كاتب اقتصادي [email protected]


"سنخرج من الاتحاد الأوروبي في نهاية الشهر المقبل، ولا نقاش في ذلك"
بوريس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا

سيتطلب الأمر وقتا طويلا كي تستوعب المملكة المتحدة آثار الانتخابات العامة الأخيرة، التي حقق فيها حزب المحافظين فوزا ساحقا، لم يكن يحلم به. المحافظون سيحتفلون لمدة طويلة بهذا الانتصار المفاجئ، بينما سيعيش حزب العمال المعارض فترة إعادة البناء من جديد، ليس فقط فترة تغيير قيادته. هذا الحزب تم اختطافه من قبل يساريين متطرفين، ضربوا كل المنجزات التي تحققت على أيدي قيادة السوط التي مثلها لفترة من الزمن توني بلير. وإذا لم يتخلص حزب العمال من القيادات التي تسيطر عليها النقابات العمالية المتطرفة، فلن يحظى هذا الحزب بأي فرصة للوصول إلى السلطة في بريطانيا. دون أن ننسى، أن توني بلير الزعيم العمالي الوحيد الذي فاز بالانتخابات العامة في غضون خمسة عقود. والسبب أن هذا الأخير حط العمال في الوسط، لا على جهة اليمين ولا على اليسار.
لم يعد مهما الآن تناول وضعية حزب العمال، لأن الأحداث تجاوزتها بعد الخسارة الانتخابية المشينة. وربما يتطلب الأمر عشرة أعوام كي يستحق هذا الحزب الحديث عنه بالتفاصيل. المهم الآن السؤال الكبير جدا الذي فرض على بريطانيا منذ استفتاء خروجها "بريكست" من الاتحاد الأوروبي أي قبل ثلاثة أعوام ونصف العام. هذا السؤال المهم الذي صار مملا هو، هل تنسحب المملكة المتحدة من هذا الاتحاد في الأوقات المحددة لذلك؟ ويظهر هنا سؤال خطير آخر يتعلق بالمستقبل هو، هل ستكون هناك اتفاقية تجارية حقيقية بين لندن والاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف؟ مع ضرورة الإشارة إلى أن الاتفاق الموقع بين الطرفين يختص فقط بـ "الطلاق"، ولا دخل له بأي تفاهم مستقبلي ولا سيما على الصعيد التجاري.
في نهاية العام المقبل، ينبغي على الطرفين الأوروبي والبريطاني أن يتوصلا إلى اتفاق تجاري، وذلك طبقا لاتفاق "الطلاق" الذي تمكنت الحكومة البريطانية الحالية أخيرا من تمريره على مجلس العموم في بلادها. لكن الأوروبيين يقولون لا يبدو أن الوقت كاف للتوصل إلى مثل هذا الاتفاق الواسع، خصوصا بعدما تصبح المملكة المتحدة طرفا خارجيا. فإذا كان اتفاق "الطلاق" استغرق أكثر من ثلاثة أعوام للتوصل إليه، فكيف الحال باتفاق يتضمن التجارة والصناعة والخدمات، والرسوم الجمركية والسوق المالية، وحركة الأشخاص إلى آخر التفاصيل الاستراتيجية؟ لكن هذا التقدير الأوروبي من حيث الزمن، لا يتوافق مع عزم الحكومة في لندن الخروج وفق الجدول الزمني المتفق عليه. خصوصا إذا ما أخذنا في الحسبان أن حكومة جونسون فازت بالانتخابات الأخيرة تحت شعار "لننته من بريكست". وهو شعار لا تستطيع أن تتلاعب فيه، رغم أنها تسيطر على مقاعد برلمانية كافية لتمرير ما تشاء في مجلس العموم، أو منع ما تشاء من المرور في هذا المجلس.
تسعى حكومة بوريس جونسون إلى عقد اتفاق مع الاتحاد الأوروبي على شاكلة الاتفاق الراهن بين هذا الاتحاد وكندا. وإذا ما وافق الأوروبيون على ذلك، فبإمكان المملكة المتحدة أن تعقد مباشرة اتفاقات تجارية ثنائية مع بقية دول العالم. لكن الأمور ليست بهذه السهولة، خصوصا فيما يتعلق بحرية الحركة المالية. ففي النموذج الكندي، يمكن للكنديين التعامل بحرية على الصعيد التجاري، لكنهم لا يستطيعون الدخول الحر إلى الخدمات المالية المصاحبة للتجارة، علما أن حركة الكنديين نحو الاتحاد الأوروبي مقيدة، أي ليست مفتوحة. هذه النقطة بالذات تثير إعجاب البريطانيين المؤيدين خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي. فهؤلاء شنوا حراكهم الانفصالي تحت شعار التخلص ما أمكن من المهاجرين الأوروبيين، ولا بأس من اللاجئين بطريق قانونية ما.
بريطانيا لا يمكنها أن تحمل اتفاقا وفق النموذج الكندي. فالخدمات المالية تعد أساسية بالنسبة لها، ناهيك عن التداخل المالي الذي تراكم على مدى نحو خمسة عقود من الزمن. ولأن الحكومة الحالية تتسم بـ"التطرف" حيال نظرتها لكيفية إتمام "بريكست"، فهي ترفض بشدة (مثلا) اقتراحات سابقة بالعمل للتوصل إلى اتفاق وفق النموذج النرويجي. لماذا؟ لأن هذا النموذج يتيح التحرك بحرية لرعايا الدول المنضوية تحت لواء الاتحاد الأوروبي، وهذا لا يمكن أن تقبله حكومة جونسون بأي شكل من الأشكال، على الرغم من أن "النموذج النرويجي" يوفر للمملكة المتحدة دخولا مفتوحا وحرا للسوق التجارية والآليات المالية المطلوبة. الفترة المقبلة على الساحة البريطانية-الأوروبية لن تكون سهلة، بل على العكس تماما قد تكون خطرة بالنسبة للجانبين، لأنها ربما تنتج حالة لا اتفاق، وهذا يعني أن المعارك التجارية بين الحلفاء السابقين ستندلع لتتحول لاحقا إلى حرب تجارية، ستضيف مزيدا من المخاطر على الاقتصاد العالمي.
في المملكة المتحدة الخطر سيكون أكبر، لأن إتمام "بريكست" بلا اتفاق، يعني تمكين القوميين الاسكتلنديين، برفع وتيرة حراكهم من أجل الانفصال عن هذه المملكة. ولدى هؤلاء حجتان. الأولى أن الإقليم صوت للبقاء في الاتحاد الأوروبي، والانتخابات العامة الأخيرة أنتجت سيطرة للحزب القومي على 80 في المائة من مقاعده.

إنشرها