Author

كيف يحتلنا النص؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد


قد يتصور بعضنا أننا سادة ما نقرأ من نصوص، وقد ينطلق بعضنا في موقف مثل هذا من تصور مفاده أننا نختار النص، وبإرادتنا نفتح أعيننا عليه أو نسدها، أو نفتح آذاننا لسماعه أو نصمها لإسكاته.
والنص (Text) ليس سهل التعريف. ونفشل في سبر أغواره لو استندنا إلى تعريفات معجمية.
ضمن علوم تحليل الخطاب، النص يشمل كل ما نستطيع قراءته، ليس بمفهوم الأبجدية فحسب، بل بمفهوم أي شيء في استطاعته التواصل معنا وباستطاعتنا إضفاء معنى عليه.
ومن هذا المنطلق، يتضمن النص المادة المقروءة والمسموعة والمرئية. وما نقرؤه ونسمعه ونراه لا ينحصر في المادة المكتوبة. من خلال حواسنا، نقرأ كل ما تقع عليه أعيننا، وكل ما تسمعه آذاننا، وكل ما نحس به في محيطنا.
وإذ تبقى النصوص على حالها –منها لفترات طويلة من الزمن مثل اللقى الأثرية، ومنها لفترات محدودة كالمعارض الفنية والكوارث البشرية وما نشيده وما نلبسه، ومنها ما نراه مقدسا أزليا لا زمن له– تتبدل قراءتنا تبديلا باختلاف الزمان والمكان والثقافة.
والقول إن النصوص لها تأثير ضمن فترات محددة لا يعني موتها أبدا. فالنصوص لا تموت. قد تبقى في حالة سبات، إلا أنها حية تنتظر فرصتها لتفرض نفسها علينا.ويخطئ من يتصور أنه أقوى من النص، أو في إمكانه احتلال النص. ويخطئ من يقول إنه لا يعترف بأي نص، أو إنه حر ويعمل خارج إطار النص.
حتى الذي يقول إنه لا يتبع أي دين (لا ديني) ولا يعترف بأي نصوص يراها أصحابها سماوية المنشأ، يخطئ عندما يقول إنه لا يقع تحت تأثير أي نص.
عندما نحلل تأثير النصوص في الناس والمجتمعات، نأخذ في الحسبان غيابها. عدم توافر النصوص، أي القول إننا لا نصوص لنا، قد يكون وقعها علينا أكثر من وجودها.
حتى لو كان الحضور والغياب على مستوى مفردة واحدة في نص كتابي، فإن لذلك وقعا كبيرا على المتلقي.
انظر مثلا: كيف نتفحص النصوص باحثين عن مفردة محددة. إن وجدناها، حملنا النص تفسيرا معينا، وإن لم نجدها منحناه تفسيرا مختلفا.
وهذا ينسحب على أي نص حتى إن كان مثلا توافر أو غياب دور العبادة. لو كانت دور العبادة من طيف معين في مدينة محددة، لتوصلنا إلى استنتاجات من أول نظرة وهي إما أن السكان كلهم من طيف واحد أو أن الأغلببية التي يشكلها هذا الطيف لا تسمح بدور العبادة للأقلية المختلفة.
والنص الخاص بدور العبادة نقرؤه في الأغلب حسب ميولنا. إن كنا من طيف الأغلبية، فمن المرجح أن نمنح الأغلبية الحق للاستحواذ على فضاء العبادة؛ وإن كانت ميولنا مختلفة لقلنا هذا انتهاك لحرية العبادة.
ونمني النفس ونمنحها مساحة كبيرة من الحرية والاستقلالية عند القول إننا نختار النص الذي نريد ونطوعه لأغراضنا.
هذا صحيح إن استندنا إلى التركيبة أو البنية السطحية للنص. لكن ننسى أن النص له تركيبة أو بنية "تحتانية" ضمنية مضمرة يحتلنا من خلالها ونحن لذلك غير مدركين.
النص من الشمولية إلى درجة يغيب فيها عن أذهاننا أن مداه غير محدود وسطوته جامعة لا بد أن نقع تحت فيئها. يقول الفيلسوف الروسي ميخائيل باختين، الذي أمضى حياته وهو ينظر ويفسر لنا ديناميكية النصوص: إن النص حتى ولو على مستوى كلمة واحدة له من الحيوية ما لنص بألف كلمة.
نحن المتلقون والنص هو المرسل. ونحن نذهب إليه، وهو ينتظرنا دائما، ومنه نستقي ما يوائم ميولنا. وميولنا "زمكانية"، بمعنى أن الناس تتغير من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان. ومن خلال رحلتها "الزمكانية" تلتجئ إلى النص، الذي هو حاضر دائما لملاءمة الوضع أو الواقع الاجتماعي أو الثقافي الجديد.
حضرتني هذه الأفكار وأنا أضع لمسات على بحث جديد حول الصراع والتطاحن والتلاسن الطائفي السائد في الشرق الأوسط، وكيف أن كل طائفة فيه تستحضر نصوصها لتبرئة نفسها.
وما صعقني كان أن الطوائف قد تستند إلى ذات النص لمواجهة الآخر المختلف، عندها تذكرت أن النص هو الذي يحتلنا؛ ونحن الذين نقع تحت رحمته وسطوته. وهو ثابت لا يتبدل ونحن المتقلبون.

إنشرها