Author

دوائر الحذر من السقوط في حفرة الفقر

|


لو نظرنا إلى مسببات الفقر كما تتداولها الأدبيات والتقارير، لوجدنا النزاعات السياسية وضعف التنمية المحلية والفساد وتدني التعليم والبنية التحتية والتغير المناخي وغير ذلك. يطول الحديث عن هذه المسببات وجهود المجتمع الدولي للسيطرة عليها وتعريف الفقر وأشكاله، "يحدد البنك الدولي خط الفقر بـ1.9 دولار يوميا، وهذا ما يساوي تقريبا 213.75 ريال للفرد شهريا". ما يلفت الانتباه أن الأبحاث تشير أيضا إلى أن مسببات الدخول في الفقر ليست بالضرورة هي نفسها مسببات الخروج منه. أي: لو قمنا بتسهيل خروج بعض الفئات من حالة الفقر ببرامج محددة ومصممة بعناية، فهذا لا يعني أن هذه البرامج ستمنع فئات أخرى من الدخول إلى دائرة الفقر.
لو حاولنا استبعاد هذا السياق التقليدي المرتبط بانتشار أو محاربة الفقر على المستوى الكلي لوجدنا أن الحديث عن المنظور الفردي في تفادي الفقر مليء أيضا باعتبارات أخرى مهمة، خصوصا لو تعاملنا مع الفقر باحترازية أكبر. لذا، إذا كان السقوط في دائرة الفقر بمنزلة النهاية التي لا يتمناها أحد لنفسه أو لأي قريب أو حتى أي إنسان على وجه الأرض، فدائرة الحذر يجب أن تكون أوسع بكثير، ربما ينظر لها البعض بما يسمى حد الاكتفاء وربما أوسع قليلا. الاقتراب من هذه الدائرة يعني الابتعاد عن طريق الحرية المالية والعيش بالأسلوب الذي يتمناه الفرد. حتى نتصور هذه الدوائر، قد نقول على سبيل المثال "الأرقام افتراضية بالكامل": دائرة الفقر ستشمل كل أسرة يتدنى دخلها عن 1500 ريال للفرد شهريا، ودائرة الحذر الأولى ستشمل كل أسرة يتدنى دخلها عن ثلاثة آلاف ريال للفرد، ودائرة الحذر الثانية ستشمل كل أسرة يتدنى دخلها عن خمسة آلاف ريال شهريا للفرد. وباعتبار أن معدل دخل الفرد ينمو بطبيعة الحال مع تطور قدرته الإنتاجية خلال حياته المهنية، فالأحرى أن يتم تصور التوقيت والآلية المناسبة لتجاوز هذه الدوائر والابتعاد عنها. وهذا تحديدا المنظور الفردي للابتعاد عن خط الفقر، فهو لا يصنع أسلوبا ماليا للحياة، فالأسلوب المالي يشتق من تحديدنا للأهداف الحياتية والمالية التي نتطلع لها، لكن الابتعاد عن هذه الدوائر يدخل ضمن إدارة المخاطر المالية عند كل فرد. وهي مخاطر واردة الحدوث بشهادة نقطتين، الأولى كثير من الظروف السياقية التي ذكرتها في البداية لا نتحكم فيها بشكل مباشر، والثانية، التقلبات المالية والقرارات الشخصية قد تحدث بشكل مباغت يجعل الفرد يقترب من دوائر الفقر بشكل سريع لا يمكن السيطرة عليه.
ولو أخذنا مثالا لشاب في مقتبل حياته، لوجدناه بعيدا عن دوائر الفقر بمرتب ستة - سبعة آلاف ريال، لكن عندما يتزوج تختلف الظروف، إذا كانت الزوجة موظفة ستبتعد الأسرة الصغيرة أكثر عن دائرة الفقر، لكن إن لم تكن حينها موظفة سيجعل مرتب ستة - سبعة آلاف أسرة الشخصين على شفا حفرة الفقر. ولو زاد دخل الأسرة الصغيرة بتطور الموظف مهنيا أو بعمل الزوجين، ووصل إلى 12 ألف ريال على سبيل المثال، سينالون قدرا جيدا من البعد الاحترازي عن دائرة الفقر، لكن قدوم طفلين أو ثلاثة قد يقلب المعادلة من جديد ويجعل مستوى الدخل يقترب بهم من دوائر الحذر وربما يدخلهم فيها. ولست هنا أحدد هذه الأرقام أو أستخدمها مرجعا وإنما توضيحا لحالة التذبذب التي تصبح أشد عندما نتجاهلها. وكما تحدثنا كثيرا عن ضرورة تنمية المداخيل لتحسين القدرة الادخارية والاستثمارية وتأمين المستقبل، فإن من الضروري الالتفات إلى أسلوب إدارة المخاطر وتنفيذ الخطوات التي تضمن ابتعادنا عن هذه الدوائر.
سأذكر خمس نقاط تشكل أهم عناصر خريطة طريق الابتعاد عن الفقر ودوائره على المستوى الفردي. الأولى، تعزيز الطموح والقدرة على النمو من الناحيتين النفسية والمهارية. كثيرون يطمحون إلى وظيفة، و"بس". وهذا في نظري أول مسببات الدخول في دائرة الفقر بعد الابتعاد عنها بأول مرتب لبعض الوقت. الحياة تتغير والاقتصاد ينمو والمتطلبات المعيشية تزيد مع الوقت، الاكتفاء بالمهام نفسها ومستوى الدخل نفسه يعني النزول التدريجي للحفرة المشؤومة، يجب أن يفكر كل فرد في طرق ووسائل تطوير الأداء وتحسين فرص زيادة الدخل بشكل مستمر، يتطلع من خلاله لتحقيق ما لم يحققه بعد دون أن يبني حواجز غير موجودة أساسا. وهذا ما سبق أن تحدثنا عنه كشرط أساس لتحسين القدرة الادخارية والاستثمارية، وهو شرط أساس كذلك للابتعاد من دوائر الفقر.
الثانية، التنبؤ بما نستطيع التنبؤ به والقيام بالإجراء الاحترازي بشكل مباشر. يستطيع كل فرد تحديد خطته الشخصية للزواج والإنجاب والقيام بالقرارات المعيشية الكبرى التي تؤثر ماليا فيه "شراء أرض، تملك مسكن، تعليم عال، تنفيذ مشروع"، وكل خطوة من هذه الخطوات تعني الضغط على مستوى الدخل وكفاءته. لذا من المهم أن نقوم بالإجراء الاحترازي المطلوب بوقت كاف، مثلا العمل على الحصول على ترقية أو مصدر دخل إضافي قبل إنجاب طفل آخر. الثالثة، تحسين الثقافة المالية الشخصية وما يتبعها من مهارات إدارية وشخصية تجعل النتائج تتحسن مع الوقت. الرابعة، استغلال الفرص والأريحية المتاحة لاستدامتها وليس لحرقها، من الثوابت الحياتية أن الفرص ليست متاحة كل يوم، وأن العمل وقت الرخاء يخدم وقت الشدة، والحصيف من يحترم هذه الثوابت ويعمل بموجبها. الخامسة، الحذر من المزالق التي تهوي بالفرد نحو دوائر الفقر، وهي الاستدانة بلا تخطيط والصرف بلا تنظيم وسوء تزامن الدخل والاستهلاك مع الادخار والاستثمار، والدليل في نتائج من يستهلك فوق مستوى دخله أو من يؤخر الادخار ويستثمر في القنوات الخاطئة.

إنشرها