Author

بريطانيا .. عندما ينتصر الخصم بجهل منافسه

|
كاتب اقتصادي [email protected]


«زعيم حزب العمال السبب الأول والمباشر لهزيمة الحزب، إنه مصيبة عليه»
كارولاين فلنيت - نائبة عمالية سابقة

ربما يجب على بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني أن يوجه الشكر لغريمه جيرمي كوربين زعيم حزب العمال المعارض، لأن الأخير "أسهم" مباشرة في حصول الأول على أغلبية برلمانية ساحقة في الانتخابات البريطانية العامة الأسبوع الماضي. هذه الأغلبية لم يشهدها المحافظون منذ عهد مارجريت ثاتشر زعيمتهم الراحلة. أغلبية سعى إليها جونسون منذ وصوله إلى زعامة الحزب من أجل تحقيق الهدف الأول له وللبلاد كلها، وهو إتمام انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي "بريكست" بأسرع وقت ممكن. فقيادة المحافظين الحالية رفعت شعارا عريضا ومخيفا في آن معا، وهو إتمام "بريكست" بأي طريقة ممكنة، حتى لو أدى الأمر إلى انسحاب بلا اتفاق، تخشى كل الدوائر الاقتصادية في بريطانيا وأوروبا منه.
المهم على الساحة الداخلية في المملكة المتحدة، لم يتمكن جونسون من هزيمة حزب العمال فحسب، بل تسبب في تدميره عمليا، بعد أن استطاع السيطرة على دوائر انتخابية كانت عمالية منذ تأسيس حزب العمال نفسه. ليس هذا فقط، بل استمال المحافظون دوائر انتخابية محسوبة اجتماعيا على الشريحة ما تحت الوسطى والفقيرة، وهي عادة ما تمنح أصواتها لحزب العمال، وفي بعض الحالات للحزب الديمقراطي الليبرالي، الذي تعرض لهزيمة شنعاء أيضا في الانتخابات العامة المشار إليها. وهنا تكمن مسألة التحول الانتخابي على الساحة البريطانية. صحيح أن "بريكست" كانت الموضوع الأول لهذه الانتخابات، لكن الصحيح أيضا أن زعامات الأحزاب المتنافسة كان لها الدور الأكبر في توجهات الناخبين. وهذا لا يعني أن الناخب أحب هذه الزعامة ولم يحب الأخرى، بل يعني تماما أنه لم يحب قيادة العمال تحديدا.
وقيادة حزب العمال الحالية هي الأكثر فشلا على الإطلاق، ليس بعد نتائج الانتخابات الصاعقة لها، بل قبل الانتخابات نفسها. هذه القيادة التي يتزعمها جيرمي كوربين تعمل تحت سيطرة اتحاد نقابات العمال في البلاد. وهذا الاتحاد وضع سياسة الحزب التي قبلها كوربين بصدر رحب، بينما قيادات عمالية سابقة لم تقبل بها وقاومتها. ولأنها فعلت ذلك، فلا عجب أن يتصدر زعيم عمالي مثل توني بلير قائمة أكثر رؤساء الوزراء نجاحا في تاريخ البلاد، وأكثر زعيم حزب حصل على أعداد هائلة من مقاعد البرلمان. وهناك حكومات عمالية أخرى كثيرة مرت على المشهد البريطاني، دخلت التاريخ من هذه الزاوية، وإن كانت بمستوى أقل من حكومات بلير التي شكلها، وربح بها ثلاث دورات انتخابية.
من هنا، يمكن القول، إن الناخب التقليدي لحزب العمال لم يصوت لحزب المحافظين حبا في جونسون، فلهذا الأخير كثير من الأعداء حتى داخل حزبه، لكن كرها في جيرمي كوربين. هذا الأخير الذي يعلن صراحة حزنه الشديد لانتهاء الحرب الباردة، ويدافع عن أي حاكم ديكتاتور حول العالم. إنه ببساطة ستاليني يريد أن يعيد كل شيء إلى حضن الدولة، ويسعى إلى حكم البلاد بأكبر قدر ممكن من السيطرة الحكومية عليها. هو نفسه يقف مع "بريكست"، فلا يمكن وصفه بأنه مؤيد لبقاء بلاده في الاتحاد الأوروبي، وموقفه هذا الذي لم يعلنه صراحة، أسهم في خروج مجموعة قيادات عمالية معروفة باعتدالها من بينها نائبه السابق توم واتسون الذي وجد أن الحزب لا يمضي بشدة نحو اليسار، بل كسر حاجز اليسار منذ وصول كوربين إلى زعامته.
عند هذه النقطة يجب أن يقدم جونسون الشكر لكوربين لأن الأمر لم يتطلب من الأول جهودا هائلة من أجل هزيمة الثاني. فأدوات الهزيمة العمالية كانت من صنع قيادتها، وهذه الهزيمة قاسية إلى درجة أن احتمالات عودة هذا الحزب إلى الحكم في المستقبل صارت قريبة من الصفر. وبفكر ستاليني لا يمكنك أن تطرح قضيتك حتى لو كانت عادلة تماما. وبهذا الفكر، لا يمكنك على الإطلاق استمالة المؤسسات والشركات في بريطانيا إليك، وبالفكر المشار إليه، لا أحد يمكنه أن يثق بك رئيسا للبلاد. أحد الأسباب التي يستند إليها زعيم حزب العمال في كراهيته للاتحاد الأوروبي، أن هذا الأخير جهة رأسمالية لا بد من مقاومتها، ولأنه ستاليني -أكثر من جوزيف نفسه- نسي أن هذه الكتلة الأوروبية توفر دفعا قويا لبلاده.
تقول إحدى المرشحات عن حزب العمال وهي كاورلين فلينت التي خسرت مقعدها في هذه الانتخابات، إنها كلما طرقت بابا لبيت في بريطانيا في إطار حملتها الانتخابية، كانت تسمع سؤالا صادما وهو، هل تضمنين لو انتخبناك ألا يأتي جيرمي كوربين رئيسا للوزراء؟! كان اسمه وحده سببا مهما ومحوريا وأساسيا لضرب حزب راسخ على الساحة البريطانية. إنه التطرف الذي يقتل صاحبه أولا. يضاف إلى ذلك الجهل. ألم يسأل جوزيف ستالين مرة "كم دبابة يمتلكها بابا الفاتيكان"؟!! الانتخابات العامة 2019 في المملكة المتحدة غيرت بالفعل الخريطة السياسية للبلاد كلها. ستكون هناك أعوام عديدة لبروز خريطة أخرى، وهذه الأعوام قد تشهد الحالة الأخطر، وهي تلك المرتبطة بسعي اسكتلندا للانفصال عن بريطانيا، ناهيك عن المنغص الإيرلندي الدائم.

إنشرها