Author

ميزانية تكسر دوامة «صعد النفط .. هبط النفط»

|


ولادة جديدة لـ"أرامكو"
لا يمكن تجاوز إعلان الميزانية لعام 2020، حيث أتى متزامنا مع تحقيق مستهدف كان هائلا عندما صرح به، وأصبح حقيقة قبل إقفال هذا العام، ألا وهو طرح "أرامكو"، التي ستستقبلها "تداول" استقبالا مدويا يوم غد، بإذن الله. ما أعلن عنه البارحة ليس فقط الميزانية العامة للدولة، بل إيضاح لكيف استطاعت الحكومة إعادة هيكلة موارد الخزانة العامة، لتسهم الإيرادات غير النفطية بحدود ثلث الإيرادات. وهي تطلع بدا بعيد المنال عندما تناوله برنامج الإصلاحات المالية والاقتصادية في عام 2016، وكان عديد يظنون أن سياسة الضبط المالي حلم بعيد التحقق، وها نحن نشهد تحققه مع برنامج كفاءة الإنفاق، وما زالت الخطوات تتلاحق لتطوير إدارة الخزانة، والمالية العامة للدولة يمكنها استيعاب تحديات المستقبل، بما يحقق كسر دوامة "صعد النفط.. هبط النفط"، التي لطالما أدت لخروج الإنفاق الرأسمالي من المشهد حتى تتمكن الخزانة من تغطية الإنفاق على البنود التشغيلية من مرتبات ونفقات عامة؟
فعلى الرغم من أنها ثاني أضخم ميزانية تقديرية أعلنت في تاريخ المملكة، بإنفاق يتجاوز تريليون وعشرين مليارا، وما يحمله ذلك من توجه توسعي للإنفاق العام سيؤدي إلى تعزيز الطلب المحلي، ويحفز الاقتصاد على النمو، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الطلب على اليد العاملة، ويتيح فرصا للمصنعين والمزودين والرياديين المحليين. وعلى الرغم من ذلك، إلا أن "الضبط المالي" أمر جعل بإمكان المملكة الإعلان عن الميزانية التوسعية تتحدى "بهلوانيات" إيرادات النفط. هذا هو التطور الذي استجد، الذي علينا أن نفطن إليه ونستوعبه، هو -تحت أي ظرف- إنجاز طال انتظاره؛ فعند النظر إلى الإنفاق غير المسبوق الذي أعلن اليوم ضمن الميزانية، نجد أنه تجاوز نوعيا الهيكلة التقليدية لتمويل الميزانية بأن تمثل العوائد النفطية نحو 90 في المائة من الإيرادات، فمصادر تمويل مصروفات الميزانية في عام 2020، هي متنوعة بين إيرادات نفطية، وإيرادات غير نفطية، ودين عام، وأرصدة حكومية نتيجة من وفورات واحتياطيات. فضلا، عن أن هذه الهيكلية تنطوي على أمر مهم وهو أنه في حال تراجعت إيرادات النفط، فلن يعني ذلك توقف البرامج الاجتماعية- الاقتصادية، ولن تتعطل برامج تحقيق "رؤية 2030"، إذ سيكون أمام الخزانة العامة خيارات لتغطية النقص، الذي قد يحدث نتيجة لتراجع الإيرادات النفطية، على الرغم من ضعف احتمال حدوث ذلك، نتيجة لجهود المملكة بالحفاظ على تماسك أسعار النفط من خلال تمديد تخفيضات الإنتاج في مجموعة "أوبك+"، التي أعلنت قبل أيام. ولبيان ذلك فقد نمت الإيرادات غير النفطية من 71 مليار ريال في عام 2010 إلى 315 مليار ريال في عام 2019، ومن المتوقع أن تبلغ 320 مليار ريال في عام 2020، أي ما يعادل 34 في المائة من إجمالي الإيرادات، بمعنى أن الإيرادات النفطية تسهم "بريالين" وغير النفطية "بريال" من كل ثلاثة ريالات ستنفقها ميزانية عام 2020.

الإنفاق العام
رغم أن الإنفاق المعتمد في الميزانية العامة لعام 2019 بلغ 1106 مليارات ريال، إلا أن ما أنفق فعلا أقل بقليل (1048 مليار ريال)، وهذا المقصود تحديدا بالضبط المالي. وهنا مفيد بيان أمرين: الأول، أن هناك إنفاقا استثماريا قدره 188 مليار ريال في عام 2018، ويتوقع أن يبلغ 172 مليار ريال في عام 2019.، بما يعزز نمو الناتج المحلي الإجمالي. وفي هذا السياق لعل من الملائم بيان أن العجز كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي سيتقلص تدريجيا ليصل إلى حدود 3 في المائة في عام 2022، بما ينبئ عن استهداف تحقيق التوازن المالي عمليا في نهاية عام 2022.

القطاع الخاص
تهدف الميزانية التوسعية إلى تعزيز دور القطاع الخاص وتمكينه مع مرور الوقت من أخذ دوره شريكا استراتيجيا يسهم في النمو والتنمية، ونجد أن جهد تنويع الاقتصاد الوطني عبارة عن سلسلة مترابطة الحلقات، بحاجة مستمرة إلى أن تتحرك للأمام، سواء ارتفع سعر النفط أم انخفض أم راوح مكانه. ولعل من الضروري أن نفطن إلى أن المالية العامة تتحرك لفك الاشتباك التاريخي بين المسارات؛ وهذا يعني فصل مسار «الخصخصة» عن مسار «الحاجة للسيولة»، واحتضان الخصخصة باحتسابها تحوطا ضد تفرد النفط بمقدرات المالية العامة، وسياجا واقيا للتنمية والنمو، وأنها هي المورد الذي علينا العمل لجعله مستداما لتنمية الإيرادات غير النفطية. وفي هذا السياق، فلعل عام 2020 يشهد انفراجا ومن ثمة تدفق في المرافق المخصخصة، رغبة في الارتقاء بمستوى الخدمة وبالعائد على الاستثمار دون أن يتضرر العاملون في تلك المرافق، وهذا أمر تضمنه ضوابط البرنامج الوطني للتخصيص.
وبداهة، فسيكون غاية في الصعوبة أن ننفق أكثر من إيراداتنا عاما بعد عام، ولا سيما أن المملكة بذلت جهدا كبيرا للخروج من دائرة الدين العام المرتفع، الذي بلغ في وقت من الأوقات قيمة الناتج المحلي الإجمالي. وبالقطع، لا يطمح أحد إلى العودة لتلك الكرة؛ ديون وسداد ديون والمبالغ المترتبة عليها لتنافس بناء المدارس والمستشفيات. كما أن لا أحد يطمح إلى العودة مرة أخرى للتوقف العملي لبرنامج التنمية الاجتماعية، أو استكمال وتحديث البنية التحتية، أو حتى لتعطيل مسار تحقيق "رؤية 2030"، طمعا في التقدم وتحقيق نهضة رائدة، تشمل الانطلاق للمستقبل واستكمال جوانب القصور في الخدمات التعليمية والصحية، على سبيل المثال لا الحصر. وهكذا تشير التقديرات الرسمية إلى أن الدين العام سيرتفع خلال عام 2020 بنحو 76 مليار ريال إلى 754 مليار ريال.
إن ما حققته المملكة خلال الأعوام العشرة الماضية من إنفاق رأسمالي ضخم توجه للبنية التحتية ولزيادة السعة الاقتصادية، ممولا بإيرادات نفطية عالية، عاد ثانية من خلال إعادة هيكلة المالية العامة، وتوسيع قاعدة إيرادات الخزانة العامة، بإطلاق برنامج تحفيزي يرتكز على ضخ رأسمالي واستثماري، سبقت الإشارة إليه. وباعتبار أن بناء سعة اقتصادنا الوطني أمر لا يمكن أن يتوقف أو حتى يتباطأ، فالمعول على برنامج صندوق الاستثمارات العامة، وكذلك على منظومة صندوق التنمية الوطني من الصناديق التنموية المتخصصة أن تحقق شراكة جديدة أعلى وتيرة مع القطاع الخاص، تؤدي إلى جعل الإنفاق الحكومي أعلى كفاءة، وتتيح للقطاع الخاص دورا اقتصاديا أكثر حيوية، يوازن بين تطلعات الرؤية السعودية 2030 المالية والاقتصادية في آن معا. يذكر أن الإنفاق العام الرأسمالي بلغ 172 مليارا في عام 2109، وسيرتفع ارتفــــاعا طفيفــــا إلى 173 مليارا في عام 2020.

"حساب المواطن"
أما فيما يتعلق بحساب المواطن، فقد أكد وزير المالية استمراره حتى تطبيق منظومة الحماية الاجتماعية، المتوقع الإعلان عنها في عام 2020، وهي تشمل إعادة هيكلة لمنظومة الحماية الاجتماعية برمتها بما يؤدي إلى دفع الإعانات لمن يستحقها نتيجة للعجز أو العوز.
ولي رأي قديم، بأن الدعم لا بد أن يكون موجها، ولذا أدرك أن هناك من له وجهة نظر مناقضة. وبعد إعلان "الرؤية" واستهدافها التحول بالنسق الاجتماعي- الاقتصادي من الريع إلى الإنتاج، أصبح من المتعذر الإبقاء على هيكلية منظومة الدعم الحكومي، كما كانت لعقود فائتة، لاعتبارات تتعلق برفع كفاءة الإنفاق الحكومي، الذي وضعته الحكومة عنوانا عريضا لميزانيتها بدءا من عام 2016، وأسهبت في شرح الخطوط العريضة لبرنامج عملها، وكان واضحا أن خفض الدعم الحكومي بند مهم ضم ذلك البرنامج، وعلينا أن نستذكر أن ذلك كان حتى قبل أن تصدر رؤية المملكة 2030، واستمر العمل لرفع كفاءة الإنفاق بما يؤدي إلى استدامته، ليذهب المال إلى مصارفه الصحيحة، من منطلق أن الحد من الهدر يعزز وضع الخزانة العامة، انطلاقا من أن الهدر هو استهلاك زائد فيه إسراف، ويجب ألا يحدث ابتداء. ومع ذلك فيجب ألا يضار نتيجة لتلك السياسات الفقير ومنخفض ومحدود الدخل، وبالفعل فقد بني حساب المواطن ليكون موجها للفئات منخفضة ومحدودة الدخل، وليعزز إعانة المستفيدين من الضمان الاجتماعي.

إنشرها