Author

إشكالات السياسات البيئية

|


يتسبب كثير من الأنشطة البشرية في آثار جانبية خطيرة على الصحة العامة والبيئة. وتتفاقم المخاطر على البيئة والصحة العامة مع مرور الوقت، كما ينتشر كثير منها جغرافيا متحديا حدود التجمعات السكانية والمقاطعات والبلدان حتى القارات الأرضية. ويتطلب الحفاظ على سلامة البيئة ومواردها، سن الدول أنظمة، وتبني سياسات تنظم وتحد من الآثار السلبية، وتحافظ على استدامة الموارد البيئية. ويستدعي تفعيل هذه السياسات، التدخل في سير الأنشطة البشرية، ما قد يعوق بعضها أو يرفع تكاليف إنتاج عديد من السلع والخدمات. إضافة إلى ذلك، تتطلب حماية البيئة تخصيص موارد مالية وبشرية وعلمية لضمان مراقبة الأنظمة البيئية. وينشأ عن التلوث وسياسات حماية البيئة والصحة العامة، تضارب مصالح بين المكونات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والشرائح السكانية المختلفة، ما قد ينتج منه توترات واحتكاكات بين الفئات المجتمعية والشرائح السكانية والمناطق الجغرافية داخل الدول حتى بينها.
تتفاقم معضلة التلوث في بقع جغرافية كثيرة داخل البلدان حتى في أحياء المدينة الواحدة. وتعاني عادة الشرائح السكانية منخفضة الدخل أكثر من غيرها الآثار الكارثية للتلوث، لوجود الصناعات والأنشطة الملوثة للبيئة قريبا من تجمعاتها السكانية، وانخفاض إمكانات وقدرات ونفوذ الفقراء ومحدودي الدخل في التصدي للتلوث ومعالجة آثاره. وتتعرض الفئات الأكثر ضعفا في المجتمعات لمخاطر التلوث أكثر من غيرها، وتؤثر بدرجة أكبر في كبار السن والمرضى والأطفال والنساء الحوامل. ويتسبب التلوث في كثير من الوفيات بين الفئات الأكثر حساسية له، كما يؤثر سلبا في النمو العقلي والبدني للأطفال.
عادة ما تكون محطات توليد الطاقة والمحارق والصناعات الملوثة للبيئة وتقاطعات الطرق المزدحمة قرب المناطق الفقيرة. ويتأثر الفقراء بدرجة أكبر بالتلوث، بسبب انخفاض قدراتهم على استخدام التقنيات الأقل تلوثا، والإقامة في أماكن تتدنى فيها السلامة البيئية، أو تتقلص قدراتهم على الحصول على الوقود النظيف والرعاية الطبية المناسبة. وهذا يرفع من أهمية التصدي للفقر ودعم الفقراء لخفض مستويات انكشافهم على الآثار الكارثية للتلوث، واستهداف استخدامهم الوقود النظيف وحصولهم على الرعاية الصحية والحماية من التلوث. وتم إدراج الحق في استنشاق الهواء النظيف في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما أنه هدف ضمن أهداف التنمية المستدامة.
ويعد بعض المسؤولين في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، وأحيانا في الدول الغنية، أن الحفاظ على البيئة ومكافحة التلوث من أمور الرفاهية، وأن الأهم رفع معدلات النمو الاقتصادي والدخل، وغض النظر عن الآثار البيئية السيئة للسياسات التنموية. وهذا الموقف ناشئ، إما بسبب المصالح الخاصة، وإما خطأ في احتساب الآثار السلبية للتلوث وتردي الموارد البيئية. ويتسبب التلوث في إحداث تكاليف باهظة على الموارد البيئية والحياة وجودة المعيشة والصحة العامة. ويتواصل تراجع جودة البيئة في كثير من الأماكن، خصوصا الدول النامية، بسبب قلة الإمكانات وتبني سياسات التنمية غير المنسجمة مع البيئة والمنتجة للتلوث، وكذلك تراجع اهتمام المجتمعات والجهات المسؤولة بخطورة التلوث على صحة الإنسان، والحياة بوجه عام. وعلى النقيض من ذلك، خطا كثير من دول العالم المتقدم خطوات واسعة في سياسات الحد من التلوث، بل نجح كثير منها في خفض معدلاته الخطرة. وتتفاقم معضلات التلوث في الدول والأقاليم والمدن التي يرتفع فيها نفوذ القطاعات الملوثة، التي ينتشر فيها الفساد المتمثل في سطوة أصحاب المصالح وضعف السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية.
يتوقف الحفاظ على الموارد البيئية ومكافحة التلوث ورفع الأداء البيئي لبلدان العالم، على الاستثمار في البنية الأساسية البيئية للتعامل مع المخلفات والتلوث، وأساليب التنمية الاقتصادية، وكيفية إدارة واستغلال الموارد البيئية. وتزداد الضغوط على الموارد البيئية لتحقيق معدلات نمو اقتصادية مرتفعة، ما قد يقود إلى التضحية بجودة البيئة، خصوصا الهواء، لرفع قدرات الصناعات المحلية على المنافسة العالمية. وقد تواجه صناعة القرارات حيرة في تبني السياسات المعززة للنمو الاقتصادي للحصول على الموارد لحماية البيئة، أو تبني سياسات الحفاظ على البيئة، التي قد تخفض معدلات النمو الاقتصادي.
تواجه البشرية مع مرور الوقت، مخاطر ارتفاع درجات الحرارة على وجه الأرض، بسبب انبعاثات الغازات الدفيئة، التي ينتج معظمها من الأنشطة الإنسانية. وتتوقع الأغلبية الساحقة من المصادر العلمية الرزينة، تسبب تراكم الغازات الدفيئة في إحداث تغيرات مناخية، بعضها كارثي على عدد من بلدان العالم. ولا تعترف الغازات الدفيئة - والملوثات بشكل عام - بالحدود السياسية والجغرافية، مما ينشرها عبر البلدان. نتيجة ذلك، قد ترتفع مستقبلا حدة التوترات والاحتكاكات بين دول العالم حول الآثار الكارثية للتلوث عبر الحدود والتغيرات المناخية الناشئة منه. وقد تلجأ بعض البلدان إلى فرض قيود تجارية على تدفق السلع والخدمات المسببة للتلوث، أو على الدول الأكثر تلويثا للبيئة، ما سيولد نزاعات تجارية. ولن يقتصر الأمر على ذلك فقط، فقد ترتفع مخاطر نشوب أزمات سياسية بين دول العالم، قد تصل في مراحل معينة إلى الحروب. وهذا يتطلب ضرورة وضع أطر عالمية للتعامل مع النزاعات البيئية والحد من مخاطر التغيرات المناخية على الأمن والسلم العالميين.

إنشرها