Author

التغير الاجتماعي من منظور ثقافي

|

في علم الاجتماع السياسي يهتم الباحثون، والمختصون بمعرفة وتناول الأسس التي يقوم عليها المجتمع، وتشكل مكوناته، وتأثيرها في سلوك الناس وتصرفاتهم وترسم حدود العلاقات فيما بينهم، ولا بد من تقرير حقيقة لطالما نسيها البعض، أو تناسوها، وتجاهلوها عن قصد، ظنا منهم أن تجاهل الشيء، وعدم مراعاته، وأخذه في الحسبان يلغي هذا الشيء، ويزيله من وجدان الناس، ومشاعرهم، ويزيله من ذاكرتهم الحقيقة التي يجب استحضارها في كل وقت وحين، أن التباين الذي نلمسه بين المجتمعات يعود في الأساس إلى الاختلاف في المكونات الاجتماعية، والمقصود بالمكونات الاجتماعية الموروث الثقافي بكل عناصره وتفاصيله من عادات وتقاليد وقيم، ودين، وأدب، وشعر، وأساطير.
الموروث الثقافي يمثل قوة ناعمة، ربما لا نلمسها، كما هو شأن الأشياء المادية، كالمصانع والمزارع والآليات الضخمة إلا أن هذا لا ينفي عنها قوة التأثير في حياة الناس، وطريقة تفكيرهم، ونظرتهم للآخر بل تفسيرهم للحياة وصيرورتها.
هل يمكن تفسير ما يلاحظ بين المجتمعات من تباين، خاصة التقدم، والتأخر في التنمية، والأخذ بزمام التقنية، والمشاركة في تطويرها وتقديم ما تستفيد منه الإنسانية، أينما كانت، وفي أي عصر وجدت بطبيعة الموروث الثقافي؟
سذاجة التفكير، وعمقه خاصة ما يتعلق بالظواهر الطبيعية، والعناصر المادية، وتفسيرها وفق قوانين، ومبادئ علمية يمثل أس المشكلة التي تعانيها المجتمعات فالغرب المتقدم في الوقت الراهن، كان في يوم من الأيام يحاكم العلماء ويحرقهم نظرا لما يعتقد أنه سحر، وخروج على الدين، وهذا لا يمكن أن يحدث لولا موروث شكل العقول لتتهيأ لمحاربة كل جديد، وخارج عما اعتاده الناس، أو ما يتعارض مع نص فهم خلاف معناه الحقيقي، أو يهدد مصالح فئة عاشت على امتيازات لا تستحقها من الأساس؛ لولا ترسيخ ثقافة تتوارثها الأجيال، وتؤمن بصحتها في غفلة عقول يتم تشكيلها وفق طقوس، وقراءات لا أساس لها من الصحة، لكنه عندما أخذ بالمنهج العلمي تمكن من تحقيق نمو هائل في مجالات عدة.
الموروث الثقافي نتائجه تظهر في المصطلحات المتداولة بين أفراد المجتمع، مثل التجديد، والقبول، والرفض، والجمود، والتحرر، ومناسب، وغير مناسب، وخطر، وغير خطر، ومنفتح، ومنغلق، بل إن الموروث الثقافي يتعدى إلى قبول، ورفض العلاج من المرض حسب نوعه، ومن يقدمه، وأدواته، وعناصره، وهذا ما يشاهد في لجوء البعض إلى طرق علاج بدائية ضررها أكثر من نفعها.
الموروث الثقافي يحدد سرعة التغير الاجتماعي، واتجاهه، إذ يمكن أن يتغير المجتمع بسرعة فائقة؛ طالما أن العناصر الثقافية التي يطولها التغيير ليست بالعناصر المهمة، وإنما تصنف باعتبارها هامشية، ولا تمس الجوهر أو تتعارض مع ما يمكن اعتباره مسّا بشخصية، واعتبارية المجتمع، وسمته العامة، كما أن التغير قد يكون بطيئا، ويحتاج إلى فترات حتى يتم تقبله والتعود على أنماط الحياة المستجدة، فعلى سبيل المثال لا الحصر عندما فتح المجال لخدم المنازل في المملكة كان الناس على فريقين فريق رحب بالفكرة، واستقدم، بل بنى عليها تجارته، أما البعض الآخر فامتنع، وتردد لكن مع الوقت سار مع عموم المجتمع.
الوضع الثالث في سرعة التغير هو الممانعة والرفض، وهذا عادة يكون لدى فئة محدودة، كما في أقلية الأميش الدينية في أمريكا حيث تعيش على توظيف العناصر الطبيعية، إذ ترفض توظيف التقنية كالكهرباء والغاز، ووسائل المواصلات كالسيارات ... إلخ.
أما اتجاه التغيير فيقصد به محتوى التغيير، وطبيعة الأشياء المراد من الناس تغييرها، ففي الأغلب يرفض الناس المس بالثوابت، مهما كانت قوة ومصدر التغيير؛ لما يحسون به من خطر على الهوية، وشخصية المجتمع العامة التي تميزه عن غيره، أما إن كان التغيير لا يمس الجوهر، فهذا يتم قبوله فورا، ويسري بين الناس دون تردد، أو مقاومة.

إنشرها