Author

استثمرت .. وماذا بعد؟

|


لا يفكر كثيرون في حالة الاستثمار بعد الاستثمار، وهذا طبيعي لأن التحدي الحالي الأهم لمعظم الفئات المتطلعة لتحقيق أهدافها المالية يرتبط بتحقيق الأهداف الاستثمارية والادخارية، وهذا بدوره يتطلب مجموعة من الأشياء من ضمنها: تنمية المداخيل وتحسين العادات ورفع مستوى الانضباط وغير ذلك من المتطلبات المعرفية والسلوكية التي تحدثت عنها سابقا وذكرها كثير من المختصين والناصحين وفندتها البرامج التوعوية المختلفة. لكن لو افترضنا أن جميع الخطوات السابقة خضعت للتنفيذ بشكل جيد وأن المستثمر الفرد وصل إلى حد جيد من الإنجاز الاستثماري، فتكونت لديه محفظة أو جيوب استثمارية متنوعة وبحجم معتبر بالنسبة له، فماذا يجب عليه بعد ذلك؟ وإذا كان ينفذ الأمور التي يتحقق بها الهدف من هذا الجهد. كيف يحافظ على إنجازه من الضياع ويستمتع به كما أراد ويحقق الرضا؟
هناك ثلاثة عناصر جوهرية تتحقق بها صيانة الإنجازات الاستثمارية للأفراد: مراجعة تطبيق الاستراتيجية الاستثمارية، مراجعة مقدمي الخدمات "مثل مقدمي المشورة ومديري الاستثمار" الذين تتعامل معهم، ضبط آلية استخدام عوائد الاستثمار. وهناك قائمة طويلة من الممارسات الممكنة التي تتطلب قدرا من المهارات مثل: المهارات البحثية، ومهارات قراءة التقارير المالية والاستثمارية، والحس المالي والاقتصادي الجيد، والذكاء العاطفي وما يتعلق به من إدارة الأفراد مشاعرهم خصوصا تلك المتعلقة بدرجة تقبل المخاطر، بما فيها مخاطر الخسارة.
ولو أخذنا مثالا لشخص تجاوز منتصف حياته المهنية وربما بدأ الثلث الأخير، وافترضنا أنه وصل باستثماراته إلى حد جيد من النمو، فهو يملك مقر سكنه، وربما قطعة أرض صغيرة خارج المدينة، ولديه بعض الاستثمارات في شركات سوق الأسهم الكبرى مدرة للأرباح، برنامج ادخاري ضمن منافعه الوظيفية، إضافة إلى بعض النقد الذي ينقسم إلى جزأين: جزء غير متحرك وجزء يصرف منه ويغذيه باستمرار. مثل هذا الشخص، يجب أن يقوم بمراجعة استراتيجيته الاستثمارية بشكل دوري، ويأخذ في الحسبان المتغيرات الاقتصادية التي تؤثر في وضع مدخراته إجمالا، ويقوم بإعادة ضبط توزيع هذه الاستثمارات بشكل يخدم أهدافه. وبالطبع عند مراجعة الاستراتيجية قد يستنتج أن أهدافه تغيرت بعض الشيء، ربما يتغير التاريخ الذي سيتوقف فيه عن العمل، فهناك من لا يخطط للتقاعد المبكر لكنه يراه واقعا ومفاجئا، وهناك من يتقاعد نظاميا ويمدد خدمته لعدة أعوام هذه المتغيرات تؤثر بشكل جذري في الخطة الاستثمارية التي تحقق الأهداف المالية الشخصية. كذلك تحدث متغيرات أخرى مرتبطة مثلا بأوضاع أفراد الأسرة، شريك الزوجية والأطفال الذين تختلف ظروفهم وطموحاتهم مع مرور الأعوام. في كل الأحوال، حتى لو افترضنا عدم تغير هذه الظروف، يجب أن تكون الاستراتيجية الاستثمارية ديناميكية مرنة لأن مستوى المخاطرة المقبول في مقتبل العمل يختلف عن مرحلة ما قبل التقاعد "هناك قاعدة تقول: كلما تقدم بك العمر قلل من الأسهم وأكثر من السندات"؛ ولأن الواقع يعج بالتغييرات الأكيدة في الظروف الشخصية والحياتية والاقتصادية، فالتطبيق الجيد للاستراتيجية الاستثمارية يستوجب المراجعة المستمرة والمتقبلة للتغييرات والتطورات.
عندما يتعامل مثل هذا المستثمر مع عدد من الاستثمارات المتنوعة التي تتطلب قدرا من الاهتمام من المختصين، سيتعامل بطبيعة الحال مع مقدمي الخدمات، سواء كانوا يقدمون له النصح والمشورة، أو من يساعدونه على الترتيب والتنفيذ أو الوساطة والإدارة. وبغض النظر عن طبيعة الخدمة هنا، سنجد أن المستثمر قد يتعامل مع شركات كبرى أو مؤسسات محلية أو أفراد مستقلين. الاهتمام بهذا العنصر أمر جوهري، لأن تنفيذ الاستراتيجية يستحيل أن يحدث بمعزل عن مقدمي الخدمات، لهذا يجب البحث عن أفضلهم، أكثرهم مهارة، وأعلاهم قدرة على منح الثقة والقيمة التي يحتاج إليها المستثمر. وأنا هنا لا أدفع باتجاه اختيار الشركات الدولية العريقة أو المحلية العارفة بظروف المكان والثقافة، لكن الاهتمام بمراجعة قوائم مقدمي الخدمات ومقارنة أدائهم التاريخي وقدراتهم في المحيط المستهدف أمر ضروري وأراه خطوة روتينية ضرورية عند كل قرار استثماري ومع كل مراجعة للاستراتيجية.
المستثمر السعيد لا يقوم بالاستثمار وإعادة الاستثمار إلى الأبد، إذ لا بد له من حصد الثمار وجني الأرباح والاستفادة من هذا العمل المضني الذي استمر أعواما طويلة. تشمل الخطة الاستثمارية أساسا عوائد مستهدفة للاستخدام الشخصي كما يرى ويحب هذا المستثمر، وهذا حق له. لكن عندما يقترب من مرحلة الحصاد، سيجد أن الحصاد لا يحدث في يوم واحد منتظر، وإنما هو أساسا عملية مستمرة تتطلب ترتيبا وتجهيزا ومرونة. في البداية ستكون العوائد خاضعة للتدوير بالكامل "أي إعادة الاستثمار"، ولاحقا سيتم ربما صرف جزء منها وإعادة جزء آخر، وربما في آخر مرحلة لا يدور منها أي جزء ويبدأ المستثمر فعليا في تسييل استثماراته مع تقدمه في العمر. الظروف التي قد تنشأ هنا متنوعة، منها أن تكون العوائد أقل من المخطط له، ومنها أن تكون أعلى، ولكل إجراء بديل وتعامل مناسب. ومن ذلك أن يستصعب الشخص البذل لتحقيق الهدف المخطط له فيرى أن الاستمتاع الشخصي لم يعد مهما أو يتعفف عنه. لهذا لا ينصح ماليا بأسلوب التقشف الشديد وإنما بالانضباط المحفز بالتمتع، لأن الأول يقسي النفس ويجعل الخطط المالية تحيد عما رسمت له، بينما الثاني يجعل الرحلة جميلة والنهاية أجمل.

إنشرها