ثقافة وفنون

الطبخ .. أعظم ابتكار بشري بعد اللغة

الطبخ .. أعظم ابتكار بشري بعد اللغة

الطبخ .. أعظم ابتكار بشري بعد اللغة

ينظر كثيرون إلى تناول الطعام كعملية بيولوجية يقوم بها الإنسان، قصد تزويد جسمه بما يحتاج إليه، لضمان القيام بأنشطته الحياتية. لكن الأمر لم يكن كذلك، فللطعام لدى كثير من الشعوب مدلول اجتماعي وثقافي وعاطفي وديني، قبل أن يكون مجرد حاجة جسمانية يتم إشباعها، لدرجة يصعب معها فصل تاريخ الإنسان عن تاريخ الطعام بشكل عام، وقد كان الطعام إحدى أهم علامات التمدن والتحضر عبر العصور.
عد بعض المؤرخين حركة لعق الشفاه التي يقوم بها المرء للدلالة على جودة الطعام، وعلى المذاق اللذيذ والشهي للأكل، بمنزلة قفزة نوعية في الخيال الجمعي، مشابهة لما يتطلبه إنتاج الأعمال الفنية وتطوير اللغة وابتكار التكنولوجيات.. وهي الأمور التي تجعل البشر متفردين عن باقي الكائنات الحية.
تبقى فكرة طهي الطعام أحد أعظم الابتكارات البشرية عبر التاريخ، فهو الكائن الوحيد الذي يطهو الطعام، أما بقية الأحياء فتتناوله نيئا. فالنار –بحسب تشارلز داروين عالم الأحياء- أعظم اكتشاف حققه الإنسان بعد اللغة. لكن الخلاف قائم بين العلماء حول تاريخ بداية الاستخدام المنتظم للنار في طهي الطعام، فالبعض يقدر حصول الأمر قبل نصف مليون سنة، استنادا إلى اكتشاف بقايا موقد في كهف وندرويرك في جنوب إفريقيا. فيما يرى آخرون أن عملية الاعتياد حديثة نسبيا، فهي تعود إلى العصر الحجري الأعلى؛ أي نحو 40 ألف سنة، وهو الزمن الذي عرف فيه البشر حياة الكهوف.
مهما يكن من أمر، يحتفظ العصر الحديث -تحديدا عام 1825- بتسجيل أول براءة اختراع لموقد طبخ يعمل بالغاز في الولايات المتحدة الأمريكية. ويظل المثبت علميا أن الطهي أدى إلى تحسن الطعم، وإكسابه الليونة، والسهولة في المضغ، فالطعام المطبوخ يقلل تكلفة الهضم، فبينما تعد وجبتك، وتأكلها في نحو نصف ساعة تقريبا، ثمت كائنات تشترك معنا في الصفات الوراثية نفسها، تقضي معظم ساعات النهار في عملية المضغ. لو قدر للإنسان أن يكون مثلها، لما وجد وقتا للعمل من الأصل، لهذا يبدو طهي الطعام سببا حيويا في جعلنا بشرا.
كان للطعام عبر التاريخ مدلول طبقي، ففي ثقافة بلاد الرافدين كان الأغنياء يتناولون أربع وجبات يوميا، وجبتين رئيستين، إحداهما في الصباح، والأخرى مع الغروب، مع وجبتين خفيفتين، بينما يكتفي الفقراء والكادحون من عمال وفلاحين بوجبتين في اليوم فقط. واكتفى الرومان بثلاث وجبات فقط، هي: فطور عادة ما يكون عبارة عن بقايا عشاء الأمس، وغداء سريع لانشغال الناس بأعمالهم، وعشاء باذخ يقام في حفلات ليلية مترفة. وكان تجهيز الموائد موحيا، حيث تحضر الأواني الفضية والذهبية والبرونزية لدى الأغنياء، فيما تقتصر موائد الفقراء على أواني الخشب والفخار، التي يتم الاستغناء عنها لتناول الطعام في أطباق جماعية.
يتحدث كاثي كوفمان في كتابه "الطبخ في الحضارات القديمة" موردا كثيرا من التفاصيل عن ثقافة الغداء، أو ما يسميه بـ"الأدب المطبخي"، لدى كثير من الشعوب القديمة "مصر، العراق، الرومان، واليونان" التي كان لها إسهام نوعي في المسار التطوري للطعام. فحرفة الطهي لدى الصينيين، اكتسبت مقاما اجتماعيا مرموقا بعد الشاعر والفيلسوف، وعدها آخرون رتبة عسكرية لما يناط بصاحبها من مسؤوليات في إطعام الجيوش للدفاع عن الدولة، على الرغم من ارتباط الوظيفة عبر التاريخ بالأنثى، باستثناء مجتمعات قليلة اشتهر فيها الرجال بالطبخ، كقبائل التودا والماركيزيون.
هذا التقسيم التاريخي للأدوار، بإسناد مهمة الصيد إلى الرجل، والطبخ إلى المرأة بحسب ريتسارد رانجهام الكاتب العالم البريطاني صاحب كتاب "قدحة النار.. دور الطهي في تطور الإنسان"، لم يرق لبعض الحركات النسوية ابتداء من سبعينيات القرن الماضي، ما دفعهن إلى تنظيم حملات دعائية ترفض ربط النساء بالطبخ، وحشرها في المطبخ. بهذا تقدم هذه الحركات خدمة مجانية لشركات صناعات الأطعمة المعلبة سريعة التحضير؛ المعدة في الأساس للجنود في الحروب، فهناك علاقة طردية تكمن بين العمل والصناعات الغذائية والوجبات السريعة.
بذلك تتنكر هذه الحركات للنبل الممنوح لهذه الوظيفة، منذ بداية معركة التنوير في أوروبا. فقد كان للمائدة طقوس لدى مختلف الشعوب الأوروبية، باعتبارها مقوما أساسيا في تهذيب روح العيش الجماعية في أي بلد. فالقومية التي تعجز عن تطوير تنوع الطعام، والإبداع في تنظيم مائدة الأكل لديها، وفرض تميزها بشيء ما، تعبر عن جمود فكري لدى أفرادها. أدت هذه التنافسية إلى تسجيل عديد من البلدان لحقوق ملكية خاصة بصنف من الأطعمة باسمها، فالمعجنات باتت رديفة إيطاليا، فيما أضحت الأجبان من نصيب فرنسا، وكانت طقوس صناعة وتحضير الشاي حكرا على الآسيويين.
يبدو أن شركات صناعات الأغدية اختطفت مطابخنا اليوم، واختطفت معها بالضرورة أذواقنا وهرموناتنا والكيمياء الحيوية في أجسادنا. ويبقى المقبل أسوأ، وفق تكهنات خبراء التغذية المهتمين بمستقبل الطعام في العالم، فمن المرجح أن تختلف أنظمة التصنيع والإنتاج، وحتى أنواع الأغذية التي نتناولها بشكل روتيني في وقتنا الحالي. نعم، يحتمل أن تختفي، وتحل مكانها بدائل أخرى، ذلك تكيفا مع الظروف التي سيمر العالم بها من تغيرات في المناخ وتطورات تكنولوجية، وما يصاحبها من زيادة في عدد السكان، واختلاف نمط الحياة بفعل عوامل مختلفة.
حتى ذلك الحين، تذكر وأنت تتصفح جريدتك على مائدة الإفطار أو تتهيأ لتناول وجبة العشاء –حسب برنامج يومك– حكمة رائعة رددها أحدهم ذات يوم، مفادها أن "برامج الرعاية الصحية الحقيقية لا يمكن إعدادها في الوزارات، بل يجب أن تكون في مطابخ بيوتنا".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون