default Author

30 يوما من العزلة

|

نخاف الوحدة ونخاف الظلام، ونتعوذ بالله دوما من ظلمة القبر وعذابه، حيث لا أحد سواك وعملك.. ماذا لو عزلت نفسك وأنت حي في غرفة صغيرة مظلمة، وكيف هي حال البحاث والعلماء ورواد الفضاء والغواصين، الذين تضطرهم ظروف عملهم إلى العيش في عزلة!
الإنسان اجتماعي بطبعه، يحب تكوين العلاقات وبناء الصداقات، ويحتاج إلى الشعور بالانتماء، وترفض فطرته الانطواء والانعزال التام عن الآخرين.
لقد كان الشعور بالوحدة هو أصعب ما عاناه الباحثون المتمركزون في أنتاركتيكا، ومثلهم شعر أحد المغامرين الناجين في غابات الأمازون، الذي عاش فيها لأسابيع وحده، ما اضطره إلى إيجاد أصدقاء وهميين، ليساعد نفسه على البقاء!
فالناس المعزولون اجتماعيا أقل قدرة على التعامل مع مصاعب الحياة، ويعانون صعوبة اتخاذ القرار ونقصا في قدرات الذاكرة والتذكر، كما أنهم أكثر عرضة للشعور بالاكتئاب والمرض، فجهازهم المناعي أضعف من غيرهم في محاربة المرض.
وتصبح آثار العزلة الاجتماعية أسوأ عندما تصاحبها عزلة جسدية، فالحبس الانفرادي يؤدي في الغالب إلى زيادة القلق ونوبات الذعر، وزيادة مستويات جنون العظمة، ونقصان في القدرة على التفكير بوضوح! تروي ناتاشا كامبوش الأسترالية التي اختطفت في سن العاشرة واحتجزت في قبو لمدة ثمانية أعوام، أن قلة الضوء والاتصال البشري أضعفتها عقليا وجعلتها عرضة للتلاعب بها، وأكثر استجابة لأوامر خاطفها.
وإذا صاحب العزلة ظلام دامس دمر ذلك دورة النوم، حيث يقلل ضوء النهار مستوى هرمون الميلاتونين، ما يساعدنا على الشعور باليقظة. هذا الخلل في إيقاعنا اليومي يجعلنا نشعر بالاكتئاب والتعب، مع زيادة في مخاطر الإصابة بالسرطان، ومقاومة الأنسولين وأمراض القلب، فضلا عن المشكلات الجسدية الأخرى مثل السمنة والشيخوخة المبكرة.
على الجانب الآخر يمكن أن تكون العزلة الاختيارية مصنعا للإنتاج، ومعملا للأفكار، ومدرسة لتنظيم الحياة، والانفتاح على المستقبل، فالروح تحتاج إلى خلوة، وانقطاع عن شواغل الدنيا، وضجة الحياة، لترى الحياة بمنظار أوسع، إذا ما توافرت في حياة العزلة شروط السكون النفسي، ووسائل التحصيل المعرفي، ومولدات الإلهام.
فقد كان النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - يعتزل قومه شهرا في كل عام، متعبدا ومتأملا في غار حراء، وشهدت مغارة ابن خلدون في الجزائر ولادة مقدمته الشهيرة، حيث كان يجد فيها السكينة والإلهام، ومن البئر أخرج لنا الإمام السرخسي كتابه المبسوط في 15 مجلدا من عقله، وأملى شرح السير الكبير للشيباني في مجلدين.

إنشرها