Author

«الاستقلالية المنضبطة» والجامعات السعودية

|


اعتمد مجلس الوزراء أخيرا نظام الجامعات الجديد، وتعليقا على ذلك، استخدم وزير التعليم مصطلح "الاستقلالية المنضبطة" وهو مصطلح جميل يعكس حرية مقيدة تسمح بالنمو دون الإخلال بالأهداف السامية للعملية التعليمية والبحثية، وهذا الانضباط الذي يفترض أن يكون وفق أحدث ممارسات الرقابة والمحاسبة يعني أن نظام الجامعات الجديد سيدفع باتجاه تحسين الإفصاحات العامة لهذه المؤسسات الضخمة وتطوير ممارسات الحوكمة، ربما بوجود لجان للمراجعة وترتيبات لإدارة المخاطر التشغيلية وقواعد واضحة ومحددة لضبط أداء مجالس الجامعات. وحسب النظام الجديد، تحقيقا لهذه الاستقلالية المنضبطة، ستكون لكل جامعة ميزانية سنوية مستقلة، وستخضع لمراجعة الديوان العام للمحاسبة، وسيتم كذلك تعيين مراجع خارجي لمراجعة حسابات الجامعة بـ"حقوق وواجبات المراجع الخارجي في الشركات المساهمة" نفسها كما أشار النظام.
تبعا لهذه الاستقلالية الجديدة أثير كثير من التكهنات المتعلقة برسوم الدراسة ومكافآت الطلاب، أي بدل أن يحظى الطالب بتعليم مجاني وفوقه مكافأة تشجيعية، سيدخر مبكرا ويعمل متأخرا وربما يقترض ليغطي مصروفاته الدراسية. لكن هذه التكهنات تم نفيها من متحدثي الوزارة إذ إن النظام لم يتطرق إلى أي استحداثات بخصوص الرسوم والمكافآت كما أشاروا. في كل الأحوال، أي تحسين في استقلالية الجامعات يعني إعادة تحويل للدعم السابق إلى مسارات أكثر فاعلية، وهذا بطبيعة الحال يؤكد التحول نحو الدعم الذكي وأن الاستفادة المباشرة من الدعم ستكون مقننة، وعندها لا بد من الطلاب وذويهم أن يستعدوا لمرحلة مختلفة من التعليم، الذي يفترض أن يصبح أفضل جودة وأعلى تكلفة.
من ملامح الاستقلالية الجديدة تأسيس الأوقاف وإدارتها. ومن ينظر في هذا الأمر يجده تمكينا للجامعات من إدارة مواردها المالية بشكل أفضل يخدم أهدافها الأساسية ومن ضمن ذلك أهدافها المالية والاستثمارية. لا يمكن تخيل الفرصة الموجودة هنا دون النظر إلى التجربة العالمية خصوصا الأمريكية للأوقاف الجامعية. تبلغ الجامعات التي تمتلك أوقافا في الولايات المتحدة بأصول تزيد على 50 مليون دولار 16 في المائة فقط من إجمالي الجامعات في أمريكا، أي 657 من أربعة آلاف مؤسسة تعليمية، وهناك 62 جامعة لديها أوقاف تزيد أصولها على مليار دولار، معظمها جامعات خاصة وليست حكومية. وتستثمر هذه الأوقاف في صناديق متنوعة بتوزيع مدروس للأصول تحقق عن طريقها عوائد سنوية بمتوسط يصل إلى 8 في المائة تضمن به على الأقل الصرف المستمر بنسبة 5 - 6 في المائة بشكل سنوي بعد خصم تكلفة الاستثمار والتضخم. أما مصارف هذه الأوقاف التي تخضع لحوكمة واضحة من مجالس الجامعات فتتنوع كالتالي -حسب إحصائية حديثة- 49 في المائة للمنح والمساعدات الدراسية، 16 في المائة لدعم البرامج الأكاديمية، 7 في المائة لدعم المنشآت والحرم الجامعي والباقي يذهب لبنود متفرقة مثل الخدمات الطبية والمجتمعية وغير ذلك. هناك من ينتقد عمل هذه الأوقاف حيث إنها تجمع الثروات ولا تستغلها بشكل جيد، إذ إن هذه الثروات نفسها يمكن استغلالها بشكل أفضل بعيدا عن الاستثمار في صناديق مختصة أو بعيدة جغرافيا. وهناك طبعا من ينتقد أوقاف الجامعات في اختلاف أوجه الصرف عن أهداف المتبرعين الذين أسهموا في تأسيس هذه الأوقاف.
تسهم الرسوم الجامعية بـ20 في المائة من إيرادات الجامعات العامة في الولايات المتحدة، وترتفع النسبة إلى 30 في المائة في الجامعات الخاصة غير الربحية وتصل إلى 91 في المائة في الجامعات الخاصة الربحية؛ تقف مداخيل الاستثمارات على 5 - 20 في المائة من إيرادات هذه الجامعات، بينما تصل المساندات الحكومية في بعض الحالات إلى ما يزيد على 40 في المائة من إيرادات الجامعات. في بريطانيا لا تختلف الصورة كثيرا إذ تشكل الرسوم الدراسية ما يعادل 44 في المائة بينما يصل دعم الحكومة للتعليم والأبحاث إلى 26 في المائة وتملأ الأوقاف 21 في المائة من معادلة الإيرادات لدى الجامعات. وبالنظر إلى الوضع المحلي نجد أن الجامعات عاشت في العامين الأخيرين مرحلة انتقالية مهمة في إدارة خططها المالية، وتحديد مصادرها ومصارفها، وبصدور النظام الجديد ستكون المرحلة الانتقالية مستمرة، نتمنى أن نرى فيها نماذج مبتكرة فاعلة تصنع المخرجات المطلوبة. ولهذا السبب تحديدا، لا بد أن تحوز مجالس أمناء ومجالس الجامعات أصحاب الخبرات المالية القادرين على إعادة توجيه نماذج العمل وتحديد الاستراتيجيات المالية المطلوبة لتتمكن الجامعات من أداء مهامها وتحقيق طموحاتها.
تدعو التوصيات الحديثة في إدارة المؤسسات التعليمية الكبرى إلى معالجة تحدياتها الجديدة بإيجاد مصادر جديدة للدخل، ورفع التعاون مع الشركات لتمويل الأبحاث، وتقديم الخدمات الاستشارية والعملية للمجتمع القريب من الجامعة، وإعادة البناء التنظيمي لمرافق وإمكانات الجامعة لرفع الكفاءة والإنتاجية، وهذا ما يهدف إليه فعليا النظام الجديد. لكن يتضح بشكل جلي أن زيادة الاستقلالية في إدارة الأنشطة الاستثمارية والوقفية لن يجعل الجامعات مستقلة ماليا، وإنما سيكون عاملا مساعدا على إدارة التزاماتها المالية، بينما تظل الحاجة قوية وكبيرة إلى الوصول إلى ترتيبات مستدامة وملائمة لنموذج الجامعة المحلية الناجحة، وهو ما تركه النظام على عاتق مجلس الجامعة ومجلس أمنائها.

إنشرها