Author

القاطرة الصينية تتباطأ

|


بعد الإصلاحات الاقتصادية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي بدأت الصين تسجل معدلات نمو اقتصادي مرتفع وزيادة متواصلة في حجم وموازين تجارتها الخارجية. أخذت معدلات النمو الاقتصادي منحنى متصاعدا بمعدلات نمو سنوية تجاوزت 6 في المائة على مدى العقود الثلاثة الماضية. وحققت الصين خلال تلك الفترة نجاحا باهرا في زيادة رفاهية الشعب الصيني، حيث تحسنت مستويات المعيشة بشكل دراماتيكي. كان معدل دخل الفرد الصيني 318 دولارا في 1990، أما الآن فقد تجاوز عشرة آلاف دولار للفرد، أي أنه تضاعف أكثر من 30 مرة خلال ثلاثة عقود، وهذا إنجاز قل مثيله في دول العالم المكتظة بالسكان.
تحتل الصين المركز الثاني بعد الولايات المتحدة في الناتج المحلي الإجمالي المقيم بمعدلات الصرف حيث تشكل نحو 16 في المائة من الناتج المحلي العالمي، كما تأتي في المركز الأول عالميا عند تقييم الناتج المحلي بالقوة الشرائية المعادلة. تؤثر التغيرات في الصين في الاقتصاد العالمي فهي أكبر مصدر للسلع والبضائع في العالم وثاني أكبر مستورد عالمي، وتحتل الصدارة عالميا في استيراد الخامات بما في ذلك النفط. صدرت الصين سلعا بقيمة 2.3 تريليون دولار في 2017، مساهمة بنحو 13.2 في المائة من إجمالي صادرات السلع العالمية، كما استوردت في العام نفسه سلعا بنحو 1.8 تريليون دولار مساهمة بنسبة 10.5 في المائة من إجمالي واردات السلع العالمية. أما إذا أضيفت هونج كونج إلى الصين ــ وهي جزء منها ــ فإن إجمالي صادراتها ووارداتها من السلع قد يرتفع بنصف تريليون دولار.
قادت القوة المتعاظمة للصين اقتصاديا إلى تزايد أهميتها العالمية حيث غدت القاطرة الثالثة ــ مع أوروبا والولايات المتحدة ــ في جر عربات الاقتصاد العالمي الشرقية والغربية. وتولي دول العالم اهتماما متزايدا بتطورات الصين الاقتصادية لأنها تؤثر بقوة في متغيرات الأسواق العالمية بما في ذلك السلع الأولية وخصوصا النفط، حيث تحتل الصين المركز الأول كأكبر مستورد له. وبلغ إجمالي قيمة واردات النفط الصينية 240 مليار دولار تقريبا في 2017، كما تشير أحدث البيانات إلى أن معدل وارداتها النفطية اليومية تجاوز عشرة ملايين برميل في شهر أيلول (سبتمبر) 2019. ويعود جزء كبير من نمو الطلب العالمي على النفط في السنوات الأخيرة إلى الزيادة المطردة في استهلاك وواردات الصين النفطية.
تراجع معدل نمو الاقتصاد الصيني إلى 6 في المائة في الربع الثالث من العام الحالي 2019، وهو أقل معدل نمو ربعي منذ بداية عام 1993. جاء هذا التراجع نتيجة للنزاع التجاري مع الولايات المتحدة التي فرضت قيودا إضافية على واردات السلع الصينية بما في ذلك الرسوم الإضافية على معظم الواردات، وكذلك لضعف نمو الاستهلاك والاستثمار المحلي. ولعب قطاعا الصادرات والاستثمارات الأجنبية دورا محوريا في نمو الصين التي ركزت في سياساتها التنموية عبر العقود الماضية على زيادة الصادرات واستقطاب الاستثمار الأجنبي. وتحاول الصين منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008 زيادة دور الاستهلاك والاستثمار المحلي في النشاط الاقتصادي. وحققت البلاد بعض النجاح ولكن ما زال اقتصادها يعتمد بدرجة كبيرة على التجارة والاستثمار الخارجي كمحرك للنمو. وتمتلك الصين إمكانيات هائلة في تنمية الاقتصاد المحلي المتمثل في ضخامة أسواقها الداخلية وعدد سكانها الذي يقارب 1.4 مليار إنسان.
تبذل السلطات الصينية جهودا حثيثة للحفاظ على معدلات النمو عند المعدلات المستهدفة لهذا العام البالغة 6.1 في المائة من خلال زيادة الإنفاق الحكومي، ولكنها تتجنب الإفراط في زيادة الإنفاق للحد من تزايد الدين الذي بدأ يؤثر في تصنيف الصين من قبل مؤسسات تصنيف الائتمان العالمية. قد تحاول السلطات النقدية تحفيز النمو من خلال تيسير السياسات النقدية ولكن هذا سيؤثر في معدلات الصرف ما يزيد من تعقيدات الخلافات التجارية مع دول العالم. تسعى السلطات للحفاظ على معدلات نمو اقتصادي جيدة لمنع ارتفاع معدلات البطالة التي تقارب 4 في المائة من الارتفاع.
تراجع معدل نمو الناتج المحلي الصيني له تأثيرات معتبرة في الاقتصاد العالمي، حيث سيخفض نمو الناتج المحلي العالمي بشكل ملحوظ. وستنتج عن تراجع معدل الاقتصاد الصيني تأثيرات سلبية في الاقتصادات العالمية وخصوصا الدول الآسيوية الصناعية المجاورة كاليابان وكوريا الجنوبية وتايوان. وقد بدأت تظهر آثار تراجع النشاط الصناعي في الصين في تجارة هذه الدول الأمر الذي سيولد آثارا سلبية إضافية في الاقتصاد العالمي. كما تأثرت أسواق السلع العالمية بتطورات الاقتصاد الصيني، حيث انخفضت أسعار فول الصويا والحديد الخام وخامات أخرى وهو ما انعكس سلبا على الصادرات الزراعية للولايات المتحدة ودول معينة كالبرازيل وأستراليا.
تظهر أسواق النفط العالمية حساسية لتطورات الاقتصاد الصيني، فأي تغير في معدلات النمو يغير من حجم الطلب العالمي على النفط ومنتجاته، حيث تستورد الصين معظم استهلاكها النفطي من الخارج. وما زالت واردات الصين قوية من النفط ولكن تباطؤ النشاط الاقتصادي فيها سيؤثر بشكل غير مرحب به في تطورات أسعار النفط، فهبوط نمو الاقتصاد الصيني بنقطة مئوية واحدة سيخفض الطلب العالمي بعشرات الآلاف من البراميل ما يعني تراجع أسعار النفط المتوقعة بدولار أو دولارين للبرميل.

إنشرها