Author

تعليمات زمران والنمو الراوندي والإثيوبي

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى


عزيزي القارئ، هذه القصة حقيقية حدثت قبل أكثر من أربعة عقود وأصحاب هذه القصة أصبحوا اليوم في حكم التقاعد، وقبل أن نمضي قدما في المقال أؤكد أنني لا أقصد بها شخصا ولا مؤسسة ولا شركة ولا هيئة، لكن بغض النظر عن المكان والزمان فإنها تستحق التأمل، وهي لفريق كرة قدم من فئة الشباب في أحد الأندية، حيث جميع اللاعبين في أفضل حالاتهم، والفريق عموما من الشباب الصغار النشيطين جدا، ومع المهارات العالية والتطبيق الجيد المتكامل لخطط مدربهم وبروح الفريق تصدروا الترتيب. كانت الأمور تسير دائما لمصلحتهم والفوز سيد الموقف حتى كانت مباراة مهمة والمدرب مصابا بوعكة صحية، بينما الفريق الخصم شرس جدا والمباراة في ملعبه. ببساطة كان المشهد مقلقا بين مدرب مريض وملعب بعيد وخصم شرس، وكان على المدرب المساعد أن يتولى القيادة وتوجيه الفريق وإعداده قبل هذه المباراة المهمة. وعلى هذه الحال سافر الفريق قبل المباراة بيوم ليتم تطبيق خطة المدرب، لكن المدرب المساعد أضاف شيئا بسيطا جدا قبل اللقاء بساعة واحدة، حيث اجتمع مع جميع اللاعبين، وقال لهم بقلق واضح: "إنه يدرك أن الفريق المقابل شرس جدا، وخصم عنيد، ونحن في ملعبه، ولهذا لا لوم عليكم إذا هزمتم بهدف أو هدفين، لكن يجب علينا ألا نسمح لهم بأن يسجلوا أكثر من ذلك"، كانت هذه هي التعليمات التي أضافها زمران المدرب المساعد. دخل الفريق المباراة وانتهت بهزيمة مدوية بلغت ستة أهداف نظيفة دون رد، كما يقال وحزن عم الفريق وغضب عارم من مدربهم الرئيس الذي ألجمته المفاجأة، مرت أسابيع قبل أن يلتقي الفريقان مرة أخرى في جولة الإياب، وعندها كان المدرب الرئيس حاضرا هذه الجولة، حيث قال لهم: "لو لعبت أنا وأطفالي الصغار هؤلاء -وكانوا معه- أمام هذا الفريق البائس المنافس لغلبتهم، فكيف وأنتم الشباب؟ لن أرضى بغير الفوز" هكذا دخل الفريق من جديد ليأخذ الكرة بأقدامه من فوق الرؤوس ويحقق الفوز بثلاثة أهداف.
تعليمات زمران حيث لا داعي للقلق فأنت مهزوم في كل حال، واعمل فمهما كان العمل فأنت فاشل أينما كان المكان، عندما تكون بيدك شمعة يراها الجميع بينما أنت تتحدث عن الظلام، تتدثر بالخوف حتى لا تتورط في الطموح، تتجاهل روح التحدي فيك حتى ترضى بالخضوع. يكون "زمران" موجودا، عندما تكون الخطة محكمة والإمكانات متوافرة، لكن القائد مرتبك متشكك وتعليماته محبطة، والقلق سيد الموقف، ومشهد الهزيمة حاضر حتى قبل أن يبدأ العمل. إنه المشهد ذاته الذي لا تمله المؤسسات ونراه أينما عملنا، ورغم الخطط الاستراتيجية، والموارد، والمقار، إلا أن الإحباط يعم المكان. أعوام تمر والمؤسسة منشغلة بالخطة والرسالة، والهيكلة ومناقشة العروض Presentations، وحضور الاجتماعات، وبعد أعوام تجد المكاتب نفسها، والأوراق والأقلام في مكانها وترى هناك أشخاصا جددا يناقشون الأفكار والخطط نفسها، والمشهد نفسه تراه عندما يغلق النافذة أحدهم منزعجا من الأصوات في الخارج، حيث الناس تشتكي وصوت إطارات سيارة تتفادى الحفر.
تعليمات زمران عندما يكون الشباب العاملون في زمن وقيادتهم في زمن آخر، عندما تجد المدرس منهمكا يشرح معنى المد والجزر والطلاب حوله يشاهدون في "اليوتيوب" حلقات عن تسونامي اليابان، وعندما تصر المعلمة على تلقين الأطفال الأناشيد بينما هم يناقشون آخر منشوراتهم على المنصات، عندما يرتبك عضو هيئة تدريس أمام طلابه وهو يشرح معنى كلمة "بريكست"، وهناك عرض في "تويتر" عن آثاره، عندما يتحدث شيخ وقور عن حتمية الصراع الطائفي بينما يشاهد الحضور تحليلا إخباريا عن لبنان. "زمران" ليس مجرد مساعد مدرب بل ظاهرة عامة.
لعل أجمل العبارات التي سمعتها " أنك إذا أردت أن يحدث التغيير يجب أن تكون قائدا له"، لكن بدائع هذه العبارة في أن تغيير القيادة حتمي عندما تفشل المؤسسات، فلن يقف أمام الفشل الذي يصنعه قائد سوى قائد آخر. لقد أدركت منذ أعوام أن تغييرا بسيطا جدا قد يحدث فرقا هائلا، إذا عرفت ماذا عليك أن تفعل، وإذا عرفت أن رواندا التي كانت خارج الحضارة الإنسانية تماما مع حرب طائفية طاحنة تقف الآن على قمة العالم الذي يخشى الركود وهي تتغنى بنمو يبلغ 12 في المائة، وبينما كانت ترسل الإغاثة لإفريقيا قبل بضعة أعوام بسبب الجفاف والحرب تقول وكالة التصنيف العالمية "فيتش": إن النمو في إثيوبيا وحدها سيبلغ 7.3 في المائة، مقارنة بنسبة نمو متوقعة لمنطقة إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى التي ستبلغ 4 في المائة. إنه التغيير الذي جعل الصين رغم ثرواتها الزراعية تقف يوما عاجزة أمام 20 مليون إنسان يموتون بسبب تعليمات "ماو" البائسة، وهي أيضا الصين التي في قمة العالم بالخطط نفسها لكن بتعليمات "دينج"، إنه التغيير الذي تهرب منه كليات وجامعات وشركات ووزارات عريقة في دول كثيرة، وكلما جاء جيل جدد العهد على تعليمات من سبقه.

إنشرها