Author

النزاعات التجارية والركود العالمي

|


فيما مضى كانت "الكنزية" هي الترياق الأول لمعالجة أزمة الركود في أي بلد أو الخروج من الانكماش، فهي التي تنادي بتغيير السياسة المالية وخفض معدل الفائدة لتشجيع الاستثمار. كانت "الكنزية" ترى أن الادخار هو الذي يؤدي إلى توقف الاستثمارات، ولهذا يجب تحفيز الأموال للخروج إلى الأسواق من خلال خفض أسعار الفائدة، ولكن كيف تكون الحال إذا أصبح الاقتصاد العالمي مهددا بالوقوع في براثن الركود؟ وكيف إذا كان الركود ليس بسبب سياسات الادخار بل بأسباب النزاعات التجارية غير المسبوقة، فهل سيبقى بريق السحر في "الكنزية"؟
استطاعت الحلول "الكنزية" أن تجد أرضا خصبة بعد عقود من النقد، وذلك عندما اندلعت الأزمة المالية العالمية. لم يكن هناك حل إلا في "الكنزية"، ولأن الاقتصاد العالمي كان في خطر، فقد شارك العالم كوحدة واحدة لتطبيق الحلول المقترحة، ووجدت مجموعة الدول العشرين الأكبر اقتصادا في العالم أن على الجميع تطبيق مفاهيم "الكنزية"، وشاركت المملكة في ذلك التطبيق من خلال تعهدها بإنفاق ما يزيد على 400 مليار دولار في الاقتصاد السعودي، كما تعهدت الصين في ذلك الحين بأن تضمن للعالم المحافظة على نمو يصل إلى 8 في المائة، كما واصلت الهند دعمها، وقررت الولايات المتحدة، ومعها دول أوروبا، تطبيق النظرية الكنزية بأكثر صورها إثارة واستخدمت أساليب سياسة نقدية غير مسبوقة تماما من خلال تطبيق نموذج التيسير الكمي، ونجح العالم بشكل مذهل في الإفلات من شبح أزمة اقتصادية مرعبة، لكن الصورة اليوم مختلفة، ومكونات الأزمة أكثر اختلافا.
فالركود يعود إلى أسباب مركبة أولها وأشدها خطرا الأزمة التجارية التي عصفت بالصين، فالاقتصاد الصيني تراجع معدل نموه في الربع الثاني هذا العام إلى أدنى مستوى في 27 عاما، وقبل أيام حقق معدل نمو 6 في المائة فقط في الربع الثالث ليكون ذلك أدنى معدل نمو للصين في ثلاثة عقود، وأقل من توقعات الخبراء، كما أن صندوق النقد الدولي أعلن أن الاقتصاد العالمي ينمو بأبطأ وتيرة له منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، وسيصل معدل النمو العالمي إلى 3 في المائة فقط هذا العام، بانخفاض عن توقعات تموز (يوليو) التي بلغت 3.2 في المائة. كما تشير التقارير الاقتصادية إلى أن تطبيق نموذج خفض سعر الفائدة لم يشجع على الاستثمار، وذلك لأن المنافذ المتاحة أصبحت محدودة ونادرة بسبب الوضع الراهن، والاتجاه العالمي معاكس تماما، حيث إن القرار الاستثماري أصبح في مأزق، فالعوائد متدنية بسبب انخفاض أسعار الفائدة وغياب القنوات الاستثمارية المضمونة، ما جعل المؤسسات الاقتصادية الكبيرة مثل صناديق التأمين تلجأ إلى الاستثمار في مشاريع عالية المخاطر أملا في تحسن مؤشرات الربحية، وهذا الاتجاه يفاقم المخاطر والقلق والتوتر العام ويكفي أن تقرأ كل هذا في عبارة رئيسة صندوق النقد الدولي قبل أيام "لا مجال لارتكاب أخطاء في السياسات".
لهذا فإن التوتر هو سيد الموقف في هذه الظروف، ويكون الاستثمار في الذهب أبرز الملاذات الآمنة لرؤوس الأموال، وأشار مجلس الذهب العالمي إلى أن التدفقات الاستثمارية في الذهب منذ بداية العام الحالي تجاوزت عشرة مليارات دولار، مع نمو أصول صناديق الاستثمار المتداولة عالميا والمدعومة بالذهب بنسبة 8 في المائة هذا العام، وبلغت أحجام التداول في عقود الذهب طويلة الأجل أعلى مستوياتها على الإطلاق، إذ بلغت نحو 213 مليار دولار يوميا بزيادة قدرها 87 في المائة عن المتوسط اليومي للعام الماضي. لكن هذه الاتجاه يعني أن سياسات "الكنزية" تؤدي إلى مزيد من الادخار الذي تعاديه، والذي قد يقود إلى تعميق الركود.

إنشرها