Author

قوة الالتزام المسبق

|


يقول أحد الناصحين: إذا كنت تريد السيطرة على استخدامك للبطاقة الائتمانية، ضعها في كوب ماء وأدخله في جهاز التجميد الفريزر، عندما تحتاج إليها ستضطر إلى الانتظار بضع ساعات بعد إخراج الكوب حتى يذوب الثلج". وقت الانتظار هذا كفيل بتحسين قرار الشراء وربما يجعلك تؤجله، أو تلغيه بالكامل. بالطبع هذه ليست نصيحة عملية جدا ولا أنصح بها، لكنها استخدمت كتقريب لفكرة التحكم في مشاعرنا أثناء اتخاذ القرار من قبل دان آريلي بروفيسور علم النفس في كتابه الشهير توقع اللامعقول Predictably Irrational الذي يشرح فيه كثيرا من السلوكيات غير المنطقية التي تكون مبنية على التحيزات الشخصية وطبيعة النفس البشرية. خلاصة الكتاب الذي يتعرض لعدد من الجوانب السلوكية والنفسية أن معرفة هذه التحيزات ونقاط التأثر تساعدنا على تحسين سلوكياتنا وتحسين نتائجها، والجوانب المالية الشخصية بالتأكيد ضمن هذه السلوكيات القابلة للتحسين.
يخصص البروفيسور دان آريلي في ثنايا الكتاب عديدا من النقاشات لمسألتين مهمتين في إدارة السلوك المالي: قوة الالتزام المسبق وتأثير المشاعر المتهيجة؛ إذ يؤثران كما يذكر في جودة القرار الاستهلاكي بشكل كبير. والتحدي من وجهة نظره التي أتفق معها وذكرت عدة شواهد عليها في مقالات سابقة يكمن في تقدم الشركات على المستهلكين في فهم هذه النواحي. أي مسوق جيد يعرف أن العملاء يتبعون أنماطا سلوكية معينة يمكن استثمارها بشكل فعال، المحصلة الجيدة من وجهة نظر المسوق -وهي زيادة المبيعات– قد تكون وبالا على المستهلك. وذلك لأن المستهلك لا يعي مقدار الخلل الذي يمارسه في اتخاذ القرار، ولا يسيطر على عملية الربط بين قراره المبني على رغباته المتجددة وبين أهدافه الحياتية الأهم. فتكون النتيجة خزانة مليئة بالملبوسات التي لا تلبس، وتجارب شرائية يتوهم بأن لها قيمة استثنائية -كما يدعي ريادي الأعمال الذي يقدمها له– وعدم توازن بين توقيت الاستمتاع بالدخل وتوقيت صناعة الدخل، يغيب في جهله بنفسه إلى أن يصنع أزماته المستقبلية بيده، بطريقة لا يمكن الاستعداد لها.
لا يختلف اثنان على أن معرفة الفرد لقدراته وإمكاناته من أفضل ممكنات تحسين السلوك، وتشمل القدرات والإمكانات هنا الملامح الذهنية الطبيعية الموجودة لدى كل شخص. لهذا، يصبح للمعرفة النفسية السلوكية أهمية كبرى في تحسين الممارسات إذ إن معرفة التحيزات أو مواطن الخطأ التي قد نقع فيها أو نتأثر بها تساعد على تجنب الضرر والتقليل من أثره. قد يصح أن نقول النصيحة المنطقية هي: اكتشف ذاتك بشكل أفضل مما يعرف المسوقون عنك، أو على الأقل، اعرف ما يعرفون عنك؛ لأن اللحظة التي يتقدمون عليك فيها هي اللحظة التي تبتعد قراراتك عن مصلحتك وتقترب من مصالحهم.
أثبتت الدراسات أن التعهد الشخصي بالالتزام بأمر ما يحسن من احتمالية تنفيذه في الوقت وبالشكل المطلوب. وهذا ما أكده عدد من التجارب مثل تقييم أداء الطلاب لواجباتهم عندما يضعون مواعيدهم بأنفسهم، إذ يتحسن الأداء تلقائيا إذا كان هناك موعد معلن محدد مسبقا للتسليم والمسؤول عن التنفيذ أعلن التزامه به. هناك من يمارس الالتزام المسبق بأسلوبه الخاص ويعلن أمام الملأ التزاماته الشخصية، مثل الذي يضع أهداف الرجيم الخاص به أو يعلن ترك التدخين. سواء اتفقنا أو اختلفنا على مسألة الإعلان العام إلا أن إدارة مهارة الالتزام الشخصي المسبق أمر ضروري، يحسن من سلوكياتنا بشكل عام ويسمح لقدر أكبر من الانضباط عند ممارسة السلوكيات المالية، مثل الادخار والامتناع عن الاستهلاك بشكل مبالغ فيه.
وكما نحدد التزاماتنا بشكل مسبق بحثا عن حالة الصفاء التي تمكن القرار الجيد، فإن هناك كذلك أمورا طبيعية تضلل القرار المالي وتحدث للجميع بشكل يومي. يصفها دان آريلي بتهييج أو تحريك المشاعر الذي يقلل جودة اتخاذ القرار وربما يعطله بالكامل. وهذا يشمل كل أنواع المشاعر والأحاسيس التي تتعاظم وتنكمش خلال اليوم عدة مرات مثل الغضب والجوع والحماس والاندماج وغير ذلك. المعضلة هنا أننا نعي تماما كثيرا من هذه الظواهر الشخصية التي تؤثر في قراراتنا وتصرفاتنا ومع ذلك لا نديرها بالشكل السليم. فنستجيب لهذه الدوافع الطبيعية إلى أن نفقد قدرتنا على السيطرة عليها. لهذا يكمن الحل في الإدارة الزمنية للموقف بتأجيل القرارات أو تنفيذها في وقت سابق أو لاحق للوقت الذي نكون فيه أكثر حماسا وأضعف من العادة.
ليس من الضرورة أن نؤجل كل قرار مالي لنبتعد عن المؤثرات السلبية، بل يمكن أن نبدأ في صنع طقوس جديدة وترتيبات وتنظيمات مبتكرة للممارسات الشخصية بطريقة تسمح بحدوث هذا الفارق الزمني بين وجود المشاعر ذات التأثير السلبي وصنع القرار. قد يستلهم الشخص من تجربته الشخصية عديدا من المواقف التي نجح بها في تفادي هذه المؤثرات أو في الاستجابة لها، سواء كان شراء للآيسكريم في يوم صيفي حار أو قرارا سريعا بالسفر، أو حتى حقيبة فاخرة لا يتم استخدامها. قوة الالتزام المسبق تحتم التخطيط الجيد وتعويد النفس وتهذيبها على عادات الانضباط وتفتح الباب لممارسة الحياة بشكل أفضل.

إنشرها