Author

تكنولوجيا المراقبة

|
أستاذ جامعي ـ السويد


كان في السابق من الزمان يتصور الناس أن الدول أو المجتمعات التي لا تنعم بالديمقراطية على الشاكلة الغربية هي التي تتجسس على مواطنيها.
وجرت العادة أن يحتاط المسافرون الغربيون أو السياح منهم عند زيارتهم أو وجودهم في بلدان كانت في رأيهم تقودها سلطات مستبدة.
وقرأنا القصص والتقارير الصحافية كيف أن العسس أو الوشاة أو الجواسيس موجودون في كل مكان في هذه البلدان وكيف أن لحيطانها آذانا أيضا.
ما جرني إلى القول إن المخبرين في كل مكان اليوم هي الصورة التي شاهدتها أخيرا لمارك زوكربيرج الرئيس التنفيذي لشركة فيسبوك عملاق التواصل الاجتماعي الرقمي في العالم، وقد وضع لاصقا على الكاميرا الصغيرة في أعلى واجهة شاشة حاسوبه الشخصي.
إذا كان هذا الرجل يخشى الكاميرا في حاسوبه الشخصي ويعمد إلى تعطيلها بطريقة بدائية وهو يدير التواصل بين أكثر من 2.4 مليار مستخدم نشط لشركته العملاقة في العالم، فأين المفر بالنسبة للآخرين؟
وإن عرفنا أن تكنولوجيا المراقبة التي تتيحها أجهزتنا الرقمية على المستوى الشخصي لا ترقى إلى 1 في المائة لما هو متوافر من أجهزة مراقبة ورصد تابعة للحكومات والمؤسسات في أغلب دول العالم، نكون أمام واقع تتحكم فيه الآلة الخوارزمية في كل حركاتنا. ولم يعد يختلف الأمر كثيرا باختلاف نظم الحكم. معادلة مراقبة الناس وتشغيل أعداد هائلة من المخبرين لتحقيق ذلك صارت تميل كفتها لمصلحة الدول ذات النظم الليبرالية والديمقراطية.
كلما زاد التفوق التكنولوجي في تملك ناصية الذكاء الاصطناعي "أو بالأحرى الذكاء الخوارزمي" زادت فرصة وإمكانية المراقبة.
وكذلك، كلما زاد التفوق التكنولوجي في تملك ناصية الذكاء الاصطناعي، صار من السهل إخراج المخبرين من البشر من ساحة المراقبة وإحلال الآلة الخوارزمية محلهم.
ونحن ندخل عالم الذكاء الاصطناعي، صار في إمكان أي دولة شراء الآلات الذكية التي تسمح لها بمراقبة الناس إلى درجة إحصاء أنفاسهم.
دولة مثل السويد التي أخذت تلج حقل الذكاء الاصطناعي من أوسع أبوابه لم تعد في حاجة إلى وجود المخبرين في الساحة. إنها في حاجة إلى علماء الخوارزميات كي يتوصلوا إلى معادلات حسابية تسمح للدولة بالسيطرة والرصد من بعد.
وأنا على ثقة اليوم بأن السويد تعرف عني أكثر مما أعرفه عن نفسي.
وإذ بلغت منتصف الـ60 من عمري فلا بد لذاكرتي أن تصاب بداء النسيان. غير أن الآلة الخوارزمية لها ذاكرة مهولة وقد تصاب بأي شيء غير داء النسيان.
ولهذا لم أندهش كثيرا عند اطلاعي على تقارير تنقل عن مؤسسة كارنيجي الأمريكية قولها إن أكثر من نصف دول العالم تشغل أنظمة متطورة جدا للذكاء الاصطناعي للرصد والمراقبة.
بعض هذه الأجهزة لها استخدامات ومنافع عامة لخدمة المجتمع. إلا أن كثيرا منها يستخدم من أجل المراقبة والتجسس. وبعد أن أصبح تحديد موقعنا أو مكاننا أمرا يسيرا صار في إمكان هذه الأجهزة تصويرنا وسماع صوتنا ومرافقتنا كظلنا في حلنا وترحالنا.
والمنافسة على أشدها بين الشركات الخوارزمية للحصول على قصب السبق في ثورة الذكاء الاصطناعي.
وتقبع الصين وشركتها العملاقة "هواوي" على رأس قائمة الشركات التي تزود دول العالم ومنها الدول المتطورة التي تقول إنها ليبرالية وديمقراطية بأجهزة صغيرة تؤدي دور آلاف المخبرين في آن واحد. وهناك شركات تنافس "هواوي" في أمريكا وبريطانيا والسويد وفرنسا واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها توفر لدولها والدول الأخرى أنظمة المراقبة على نطاق واسع.الادعاء أن الدول التي تحكمها نظم غير ديمقراطية هي التي تشتري وتستخدم الذكاء الاصطناعي في المراقبة لم يعد ينطلي حتى على السذج من الناس.
أجهزة المراقبة التي لا تترك شاردة ولا واردة إلا وتسجلها وتقدمها على طبق من ذهب لدوائر الأمن والاستخبارات أكثر شيوعا واستخداما في الدول ذات النظم الليبرالية والديمقراطية منها في الدول الأخرى.
وأخذت بعض الجمعيات التي تعنى بالحقوق والحريات المدنية تثير أسئلة أخلاقية ودستورية حول المدى الذي ذهبت إليه الحكومات الغربية في مراقبة مواطنيها، لكن يبدو أن أهمية ومنفعية الوسيلة تبرر الغرض مهما كان.
وبعد أن انتشرت أجهزة المراقبة إثر بزوغ فجر الذكاء الاصطناعي، لا أظن أن أي مبادئ أخلاقية أو دساتير أو لوائح ستحول بيننا كأفراد وبين أن يرافقنا مثل الظل مخبر من نتاج ثورة الذكاء الاصطناعي.

إنشرها