Author

حينما تشيخ العواصم .. جاكرتا أنموذجا

|


العواصم والمدن شأنها شأن البشر تهرم وتشيخ مع مرور الوقت وتتكالب الأمراض عليها، خصوصا إذا أهملت مشكلاتها ولم تتم معالجتها سريعا. ومشكلات العواصم وأمراضها التي تنغص حياة سكانها وتوتر أعصابهم وبالتالي تقلل إنتاجيتهم، بل تدفع المستثمرين إلى الهروب منها تتلخص في الكثافة السكانية العالية والازدحام المروري الخانق والتلوث البيئي المستفحل ومخاطر التعرض للكوارث الطبيعية في حالة المدن المشاطئة للمحيطات أو في حالة المدن القريبة من الغابات القابلة لاندلاع الحرائق فيها.
كحل لهذه المعضلات عمد بعض الدول إلى نقل عواصمها الإدارية إلى مواقع جديدة أكثر أمنا وهدوءا وأقل أضرارا، على نحو ما فعلته البرازيل "برازيليا بدلا من ريو دي جانيرو" ونيجيريا "أبوجا بدلا من لاجوس" وماليزيا "بوتراجايا بدلا من كوالالمبور" وميانمار "بايبيداو بدلا من رانجون"، وعلى نحو ما تخطط له مصر حاليا. آخر الدول التي تفكر الآن في اختيار عاصمة بديلة هي إندونيسيا التي أصبحت عاصمتها "جاكرتا" مدينة لا تطاق على الرغم من كل ما تحتضنه من مباهج ووسائل ترفيه وراحة وتسوق.
فهذه المدينة التي فكر أحمد سوكارنو الرئيس الإندونيسي الأسبق في التخلي عنها قبل نصف قرن، يوم أن كانت مشكلاتها محدودة للغاية، لا تنحصر أمراضها في كثافتها السكانية الرهيبة البالغة عشرة ملايين نسمة إضافة إلى نحو 30 مليون نسمة يترددون عليها يوميا من الضواحي والمدن والبلدات المجاورة، ولا في العدد الهائل من المركبات والدراجات النارية التي تجوب شوارعها المترهلة "تتسب في خسائر قدرت بنحو خمسة مليارات دولار سنويا"، ولا في التلوث البيئي الخانق الناجم عن عوادم المركبات وأدخنة المصانع والمعامل. وإنما يضاف إلى عللها احتمال تعرضها إلى فيضانات مدمرة أو أمواج مد عاتية أو هزات أرضية مزلزلة، واحتمال تعرض ثلث مساحتها "ولا سيما الأجزاء الساحلية منها" إلى الغرق والاختفاء تحت سطح البحر بحلول عام 2050 إذا ما استمرت أعمال استخراج المياه الجوفية بالمعدلات الحالية.
وبناء على هذه المعطيات أعلن الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو في خطاب متلفز له أخيرا عزم حكومته بناء عاصمة جديدة قائلا إنه اختار موقعا إلى الشرق من جزيرة بورنيو مكانا للعاصمة الجديدة التي سيكلف بناؤها نحو 466 تريليون روبية أو ما يعادل 33 مليار دولار أمريكي. وللذين لم يسمعوا بهذه الجزيرة من قبل، تعد بورنيو ثالث أكبر جزيرة في العالم وأكبر جزيرة في قارة آسيا من ناحية المساحة (748 كيلومترا مربعا)، علما أن إندونيسيا تشترك مع ماليزيا وسلطنة بروناي في ملكيتها، حيث يعرف الجزء الإندونيسي منها (وهو الأكبر مساحة ويسكنه نحو 18.6 مليون نسمة) بـ"كلامنتان".
في حيثيات اختيار هذا الموقع تحديدا قيل إنه أكثر توسطا لأقاليم الأرخبيل الإندونيسي، وبالتالي أسهل للوصول إليها من قبل سكان البلاد البالغ تعدادهم 260 مليون نسمة. كما قيل إنه ملائم كونه يقع قريبا من مدن إقليمية مثل "باليكبابان" و"ساماريندا"، وإنه بعيد عن المخاطر والكوارث الطبيعية، إضافة إلى أن الحكومة تملك فيها أراضي شاسعة مساحتها 180 ألف هكتار. إلى ذلك قال بعض المسؤولين: إن الخطوة ستعزز الوحدة الوطنية انطلاقا من أنها ستنقل مركز الثقل السياسي والاقتصادي والنخبوي لأول مرة من إقليم جاوة ذي الكثافة السكانية العالية "يسكنه نحو نصف إجمالي عدد السكان" إلى منطقة ظلت مهملة طويلا، علما بأنه كانت هناك شكاوى جهوية دائمة من تركيز كل الأمور والأنشطة في إقليم جاوة على حساب الأقاليم الأخرى.
وعلى حين ينتظر الإندونيسيون مصادقة البرلمان على اقتراح الرئيس ويدودو الذي يعني تنفيذ نقل ما لا يقل عن 1.5 مليون موظف حكومي إلى العاصمة الجديدة بدءا من عام 2024، نجد أن بعض الأصوات بدأ يرتفع منددا بالاقتراح من منطلق أن بناء عاصمة إدارية جديدة في بورنيو سيهدد بيئة الجزيرة المعروفة باحتضانها عديدا من النباتات والأشجار والطيور والحيوانات النادرة، قائلة "يكفيكم حرق الغابات على مدى الأعوام الماضية من أجل تملك أراضيها والبناء فوقها". كما لوحظ ظهور منتقدين آخرين ممن بنوا انتقادهم على فرضية تحول العاصمة الجديدة إلى جاكرتا أخرى مع مرور الوقت وانجذاب كثيرين للإقامة أو تأسيس مشاريعهم وأنشطتهم التجارية والخدمية فيها.
وقد ردت الحكومة على هذه الانتقادات بالقول إن البلاد في حاجة ماسة إلى الاستثمارات الأجنبية وإن الأخيرة لا تأتي إلا إذا كانت العاصمة مكانا مثاليا تسهل فيه الحياة والاندماج دون منغصات يومية أقلها الوصول إلى المكاتب في مواعيد العمل المقررة.

إنشرها