Author

الوحدة الاستراتيجية ومزيد من الجودة

|

طرحنا في المقال السابق قصة اليابان مع الجودة، وانطلاقتها الاقتصادية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، حيث باتت اليوم الدولة الثالثة في العالم في حجمها الاقتصادي بعد الولايات المتحدة والصين، وذكرنا في المقال قيامها بالتعاون مع وليم إدواردز ديمنج William Edwards Deming الأمريكي الملقب "بأبي إدارة الجودة"، وقدمنا توصياته الـ14 بشأن الجودة. وبينا أيضا أن موضوع الجودة شهد ظهور أفكار وتوصيات ومعايير مهمة وضعها آخرون بعد ديمنج، لعل من المهم طرحها هنا. فثقافة الجودة باتت مسألة مهمة في تطور المجتمعات؛ لأن صاحب هذه الثقافة قادر على الإسهام بها على جميع مستويات الوحدة الاستراتيجية، بدءا بذاته فالمؤسسة ثم الدولة، وربما العالم بأسره. وسنقدم في هذا المقال أفكارا في الجودة، قدمها خبراء تضيف مزيدا إلى توصيات ديمنج، وتستكمل أجزاء أخرى من صورة الجودة في العالم.
برز إلى جانب اسم ديمنج الذي بدأ عمله مستشارا أمريكيا في موضوع الجودة في اليابان عام 1950. اسم آخر هو جوزف جوران Joseph Juran الذي بدأ عمله هناك عام 1954. أعطى جوران تعريفا أنيقا ومختصرا للجودة يقول: "إنها رشاقة الاستخدام"؛ ومن هذا المنطلق أضاف فكرة أن على المؤسسة "أن تتعلم كيف يقوم المستخدم باستخدام المنتج"، وأن تقوم بالإعداد لذلك لتحقيق الرشاقة، أو المرونة والسهولة اللازمة لهذا الاستخدام. وكما فعل ديمنج، قدم جوران توصيات بشأن تنفيذ الجودة، بلغ عددها عشر توصيات. وتتقاطع هذه التوصيات مع توصيات ديمنج سابقة الذكر، وتضيف إليها في المحصلة ثلاث توصيات رئيسة موضحة كالتالي.
التوصية الأولى هي "التوعية"، أي بناء الوعي داخل المؤسسة بشأن الحاجة إلى التحسين والتطوير المستمرين ووجود فرص لتحقيق ذلك. أما التوصية الثانية فكانت "تقدير العمال المتميزين"، ويشمل ذلك أولئك الذين يقدمون منجزات متميزة، حيث يشجعهم الاعتراف بجهودهم وتميز أعمالهم ومكافأتهم على منجزاتهم على تقديم مزيد كما يحفز زملاءهم على مثل ذلك أيضا. وتأتي التوصية الثالثة لتركز على "الاهتمام بإعداد التقارير" ويتضمن ذلك طرح أعمال التحسين والتطوير في تقارير تبين ما يتم تنفيذه، وتسجل الخبرة المكتسبة في ذلك.
كانت اليابان تلميذة نجيبة مميزة، حيث انطلقت حاملة "جودة" منتجاتها إلى العالم، وصار لها خبراء في الجودة من اليابانيين أنفسهم إلى جانب الأمريكيين الذين استفادت منهم وآخرين ممن تابعوا أمر الجودة حول العالم. ولا شك أن توجه اليابان نحو الجودة واعتمادها على خبراء خارج حدودها أعطى الاهتمام بالجودة دفعة إلى الأمام، خصوصا بعد أن أخذت السلع اليابانية الناجحة طريقها إلى مختلف أسواق العالم، بما فيها السوق الأمريكية، بذلك تفعلت المنافسة وبات على الجميع البحث عن الجودة ومتطلباتها. وبرزت أفكار متجددة في الجودة تضيف مزيدا إلى توصيات ديمنج وجوران، وسنطرح فيما يلي ستا من أهم هذه التوصيات، مع أسماء أصحابها.
قدم فيليب كروسبي Philip Crosby توصية تقول "لا للسماحية"، بمعنى العمل على إزالة الأخطاء من عملية إنتاج السلع أو الخدمات بشكل كامل، أي يتم العمل صحيحا من أول مرة. وأعطى وليم كونوي William Conway توصيتين تقول إحداهما "لا للهدر"، حيث تقضي بجعل الإجراءات واضحة وشفافة، لا هدر فيها ولا ضياع في الجهد أو المصادر. أما التوصية الثانية فتؤكد فكرة والتر شوارت Walter Shewhart في "استخدام الأساليب الإحصائية" في تفتيش عينات المنتجات التي طرحناها في مقال سابق، لكنها توسع النظر إلى هذا الاستخدام ليشمل دراسة الإجراءات، وتحديد مشكلاتها، والعمل على إيجاد الحلول المناسبة لتطويرها.
طرح كاورو إيشيكاوا Kaoru Ishikawa توصية تقول بالعمل على تحقيق "الجودة لكامل الوحدة الاستراتيجية"، وذلك على كل من مستوى المؤسسة أولا والدولة ثانيا، والدولة المستهدفة بالنسبة لصاحب التوصية هي اليابان، وكانت هذه التوصية فيما بعد أساسا لبروز أفكار إدارة الجودة الشاملة TQM وتوصيات الجودة ISO 9000 ، الخاصة بالمؤسسات، الصادرة عن هيئة المعايير الدولية ISO.
قدم مداكي إيماي Madaaki Imai توصية باتباع ما أسماه ثقافة كايزن Kaizen، وكلمة كايزن تعود إلى جذور يابانية تحمل معنى التطوير أو التحسين Improvement، وتهتم ثقافة كايزن بالتطوير المستمر من أجل تحقيق تحسين تزايدي منظم للمؤسسة يسهم فيه الجميع. وهي تشبه في ذلك طريقة شوارت الدورية في التطوير المستمر PDCA، مع إضافة موضوع ثقافة التطوير وإسهام الجميع فيه، وترتبط فلسلفة كايزن مع أسلوب العمل على أساس الخفة أو ربما الرشاقة Lean التي تكمل التطوير المستمر، بإضافة الحرص على "إزالة الهدر وتفعيل الكفاءة في العمل".
أعطى جينيشي تاجوشي Genichi Taguchi توصية مكملة لتوصية "لا للهدر" سابقة الذكر المقترنة باسم كونوي، القاضية بضرورة إزالة الهدر تماما، وعنوان هذه التوصية هو "حدود الهدر"، وينصح باتباعها كوسيلة لإزالة الهدر، أو على الأقل جعله عند الحد الأدنى في إطار المواصفات المطلوبة للعميل المستهدف. والفكرة هنا هي عدم تقليل مستوى هذه المواصفات حرصا على رضا العميل ونجاح المنتج في السوق، مع عدم زيادة هذا المستوى لتجنب الهدر الذي يمكن أن ينتج عن ذلك، لأن العميل لا يحتاج أساسا إلى هذه الزيادة.
وهكذا يكون لدينا تسع توصيات أو أفكار في الجودة قدمها هذا المقال، تضاف إلى أفكار ديمنج الـ14 المعطاة في المقال السابق. وهكذا نكون قد طرحنا 23 فكرة من أفكار الجودة التي قدمها خبراء الجودة الأمريكيون واليابانيون، منذ عام 1950 وأسست هذه الأفكار لما نعرفه اليوم من معطيات الجودة الحديثة ومعاييرها الدولية، مثل: إدارة الجودة الشاملة TQM؛ والأبعاد الإحصائية الستة Six Sigma، ومعايير ISO 9000، إضافة إلى الهندرة Re-Engineering، ولعلنا نطرح المبادئ الرئيسة لهذه المعطيات في مقالات مقبلة بإذن الله.
لا شك أن الوحدات الاستراتيجية تحتاج إلى ثقافة الجودة على المستويات كافة، لكن لا يمكن أن نأخذ جميع توصيات الجودة التي قدمها الخبراء كمسلمات، بل لابد من التدقيق فيها وتقييم ملاءمة تطبيقها لأي عمل نقوم به.

إنشرها