Author

التضليل كسلاح

|
أستاذ جامعي ـ السويد


الحروب لم تعد في عالم اليوم من اختصاص الجيوش النظامية. ولم تعد كذلك تنفع الأسلحة التقليدية الحديثة من مدفع وبندقية وطائرة حربية وقنابل غبية أو ذكية.
وكذلك تأثير الحروب لم يعد يقتصر على ساحة المعركة أو أضرارها التبعية أو الجانبية.
مع التطور المذهل الذي حققته الثورة الخوارزمية، أصبحنا تقريبا كلنا جنودا، في يدنا سلاح نقتل أو نقتل بواسطته.
إنها حرب التضليل، والإعلام ساحتها، ونحن إما ضحاياها وإما أدواتها.
لم يحدث في التاريخ أن استخدمت المعلومات سلاحا للتضليل مثلما يحدث اليوم.
والأنكى، فإن الثورة الخوارزمية التي وسعت نطاق وتأثير الإعلام أفقيا وعموديا وتقريبا في كل اتجاه، هي في نمو وتطور دون توقف، ولا يعلم إلا الله ماذا ستكون عواقبها ونحن ندخل عصر الذكاء الخوارزمي الصناعي من أوسع الأبواب.
وما يميز الثورة هذه أنها جعلت الأدوات الخاصة لاستخدامها متاحة وفي متناول الكل تقريبا. لا نحتاج الى أي جهد عملي، أو ذهني، أو مهني للحصول على موقع لنا في أي وسيلة للتواصل الاجتماعي.
وحال حصولنا عليها، يصبح بمقدورنا نظريا أن نؤسس منصة نرسل من خلالها أخبارنا وصورنا الثابتة والمتحركة ونبني لأنفسنا دارا في الملكوت الذي تديره المعادلات الخوارزمية.
الشيء الذي لا نكترث له أو لا نعرفه – وهنا بيت القصيد – أننا لا نصنع أو نتحكم في المعادلة الخوارزمية. المعادلات هذه تتحكم فيها الشركات والمؤسسات والدول – أي السلطة – ونحن رغم تملكنا للمنصة لسنا إلا بيادق في رقعة شطرنجها.
وننسى أيضا أننا بمجرد تسجيل موقع لنا أو تملكنا لجهاز من الأجهزة الخوارزمية العجائبية، فإننا نتخلى عن كثير من خصوصيتنا واستقلاليتنا كأفراد وأحيانا مجموعات وربما دول وشعوب.
وصارت الخوارزمية سلاحا، ربما من أفتك الأسلحة في أيدي الذين يملكون ناصيتها ويطوعونها لنشر وجهة نظرهم، أو بالأحرى آرائهم ومواقفهم الذاتية. ولا يكتفون بهذا، بل يعملون على تضليل وتشويه المعلومة لانتقاص أو تهميش كل من يعارضهم.
كان المفترض أن تساعدنا الثورة الخوارزمية على استعادة حريتنا التي تنتهكها السلطات من خلال مؤسسات لا طاقة لها، وربما لدول ذات سيادة، للوقوف في وجهها.
كنا نتصور أن حرية العمل شبه المطلقة التي تتمتع بها الشركات الخوارزمية الكبيرة ستصبح سلاحا في يد من لا صوت له ولا وسيلة له للوصول إلى منصات التواصل والإعلام التقليدية.
بيد أننا دخلنا عصرا لم تعد للفرد فيه أي فسحة من الحرية في اختيار المعلومة. وليس الفرد فحسب، بل حتى بعض الدول والمؤسسات تخفق في توصيل ما لديها من مواقف إلى الآخرين.
وصرنا أمام وضع أو واقع اجتماعي يتحكم فيه التضليل أكثر بكثير من تتحكم الحقيقة. ويكاد التضليل يكون القاعدة والحصول على المعلومة الصحيحة استثناء.
الخوارزميات نظمت وسرعت نقل المعلومة وبكميات هائلة وطاقات جبارة، ولكنها جردتنا من أي تخويل نملكه للتحقق من الحقيقة وفرز الصواب من الخطأ.
الكم الهائل من المعلومات المتوافرة التي باستطاعة الناس الحصول عليها بسرعة تنظمها وتبوبها لنا الخوارزميات وتقدمها طبقا شهيا، لم نسهم ليس في طبخه بل في اختيار المواد الداخلة فيه.
حاليا، وفي اليوم الواحد، ننشر من خلال حواسيبنا وأجهزتنا الخوارزمية الصغيرة والكبيرة نحو 2.5 كوينتليون بايت "وحدة معلومات حسابية".
والكوينتليون يساوي واحد أمامه 30 صفرا. وإن علمنا أن كل بايتين (2 بايت) تساوي كلمة، لصار في إمكاننا التخمين كم مليار كلمة (وحدة خطابية) في النهار نبثها في الهواء.
من يسيطر عليها، ومن خلالها علينا؟ الذي في استطاعته "خورزمتها" ومن ثم تبويبها وتقديمها لنا طبقا شهيا، هو صاحب السلطة اليوم وصاحب السلاح الأشد فتكا في الدنيا.
خذ الأخبار مثلا. اليوم صارت الخوارزميات هي التي تصنع الأخبار وتبوبها وتعلبها بالطريقة التي تريدها الشركات، ومن ثم تقدمها لنا كي نهضمها. أليس هذا ما يفعله "جوجل وفيسبوك وياهو" وغيرها؟
والخوارزمية تشبه قائمة الطعام في مطعم. المطعم الصيني وجباته صينية، والخوارزمية التي تتحكم فيها الصين تقدم لنا وجهة النظر الصينية. في إمكان الخوارزمية الصينية اليوم إقفال أبواب الصين في وجه أي معلومة لا تتطابق مع وجهة نظرها.
وصرنا في حيرة من أمرنا، لأن البحث عن الحقيقة صار مثل البحث عن إبرة في كومة قش أو أعسر.
وخفت صوت الذين لا سلطة ولا ناصية خوارزمية لهم، وصدح صوت الأقوياء من الشركات والمؤسسات والدول.
وهكذا لو سألنا شخصين فقط عن الذي يحدث للمسلمين مثلا في كشمير أو الصين، ربما لن نحصل على شبه تطابق حول ما يجري.
قس على ذلك ما يواجهنا من أزمات ومشكلات، ومعها المواقف تجاه أغلبية القضايا المصيرية التي تعصف بالعالم.
قربتنا الثورة الخوارزمية من بعضنا من حيث الاتصال، ولكن صرنا أبعد ما نكون عن بعضنا، لأن التضليل من خلال إنتاج وتوصيل المعلومة وصل حدا لا يطاق.

إنشرها