Author

شق الطريق تحت الأنقاض من أجل التنمية

|


كان عام 1947 عاما حاسما حيث شهد ميلاد نظام بريتون ووردز. ومع بدء البنك الدولي عملياته، وجمع الاكتتابات في رأس المال من البلدان المساهمة، بدأت ملامح دوره في الظهور، ليس في مجال الإنشاء والتعمير فقط، ولكن في صياغة نظام مالي جديد كذلك. كانت البدايات بطيئة الخطى: قدم أول رئيس للبنك استقالته المفاجئة بعد ستة أشهر فقط من العمل. وبعدها بأقل من شهرين، توفي نائب الرئيس فجأة. وكان مستقبل المؤسسة ضبابيا، ولما يقدم البنك بعد قرضه الأول.
ولكن بدأ البنك شيئا فشيئا في تحديد معالم سياساته، وفي أوائل عام 1947 وقع قرضه الأول – 250 مليون دولار لإعادة إعمار فرنسا. وبالقيمة الحقيقية، يعد هذا القرض واحدا من أكبر القروض في تاريخ البنك بقيمة تبلغ 2.85 مليار دولار بعد حساب التضخم. وعند النظر في الماضي، تبدو عمليات البنك الأولى بسيطة بشكل ملحوظ. حيث تمثل طلب القرض الفرنسي في خطاب بسيط، ضمن مخطط الحكومة لبرنامج إعادة الإعمار، تطلب فيه 106 ملايين دولار لشراء معدات، و180 مليون دولار للفحم والمنتجات البترولية، و214 مليون دولار للمواد الخام. ويصف الخبراء في ذلك الوقت كيف تعلموا أثناء العمل نوعية البحث الذي ينبغي أن يقوموا به، والأسئلة التي يتعين عليهم طرحها. ويتذكر ريتشارد ديموث، الذي عمل مساعدا لنائب الرئيس، ذلك الوقت قائلا: "لم يكن أحد يعرف من أين يبدأ، كنا عديمي الخبرة، تماما مثل أي مؤسسة جديدة تعمل في مجال جديد، كنا نتلمس طريقنا في ذلك الوقت".
وفي أثناء تلمس البنك الدولي طريقه، بدأ في إعادة تعريف تمويل التنمية، عن طريق استحداث طرق جديدة لربط التنمية بأسواق رأس المال. وفي تموز (يوليو) 1947 أصدر البنك أول سنداته، وجمع 250 مليون دولار لتمويل مشاريع إعادة الإعمار والتنمية. وأقرض ما يقرب من 500 مليون دولار لأنشطة إعادة الإعمار في أعقاب الحرب في هولندا، والدنمارك، ولوكسمبورج، في وقت لاحق من صيف ذلك العام.
من منظور رسالة التنمية الحالية، تبدو القروض المقدمة إلى البلدان الأوروبية في غير موضعها. ولكن، عندما درس خبراء البنك اقتصاد بلدان أوروبا الغربية، وجدوا حاجة هائلة إلى الطعام والوقود والمواد الخام ورأس المال. ففي عام 1947، كانت أجزاء هائلة من القارة تئن تحت الأنقاض. ولقي ملايين البشر حتفهم في حرب دامت ست سنوات، ودمرت البنية التحتية، وتحول كثير ممن نجا منها إلى لاجئين.
وكانت الآفاق الاقتصادية قاتمة في شتاء عام 1947، عندما بدأ البنك في تقديم بعض ما تشتد إليه الحاجة من المساندة. ويرصد المنقول الشفهي أن "الإدارة لم تكن بحاجة إلى جهد كبير لتتوصل إلى أن احتمالات السداد كانت معقولة؛ حيث شدد التقرير الاقتصادي عن فرنسا، على سبيل المثال، على إرادة التعافي الجماعية لدى فرنسا، وليس على مواردها المالية أو آفاقها التصديرية النوعية". وعبر قروضه الأولى، استثمر البنك الدولي في المعدات والمواد الخام، ولكن كان الأهم من ذلك استثماره في الإرادة الجماعية لدى الشعوب المكلومة من الحرب في إعادة بناء معايشها.
كان القدر الأكبر من الفكر التقليدي في السنوات الأولى للبنك الدولي يتمثل في تركيزه بشكل مباشر على الإنشاء وإعادة الإعمار، ولم يتحول صوب التنمية إلا بعد بداية خطة مارشال. وعلى الرغم من أن خطة مارشال دفعت البنك الدولي بعيدا عن التركيز على إعادة بناء اقتصاد ما بعد الحرب في أوروبا الغربية، فإن التنمية كانت جزءا أصيلا في تكوين البنك الدولي منذ بداياته الأولى.
تنص أول فقرة من اتفاقية تأسيس البنك الدولي للإنشاء والتعمير على أن من بين أغراضه "تشجيع تنمية المنشآت الإنتاجية والموارد في البلدان الأقل نموا". وتشير دراسات أكاديمية حديثة أيضا إلى أن التنمية شكلت القسم الأكبر من المداولات التي دارت في مؤتمر بريتون وودز، على العكس من التقديرات السابقة. وأشار إريك هلينر، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في جامعة ووترلو، إلى أن التطلعات الإنمائية للقوى الناشئة لعبت دورا كبيرا في مناقشات بريتون وودز. وكتب هلينر "كانت مفاوضات بريتون وودز أبعد ما تكون عن غض الطرف عن أهداف التنمية الدولية، وينبغي الاحتفاء بدورها الريادي في إدراج هذه الأهداف ضمن البنية المالية الليبرالية متعددة الأطراف للمرة الأولى".
وبدأ هذا الإدراج عام 1948، عندما وافق البنك على قرضين سياديين لشيلي: قرض بقيمة 13.5 مليون دولار لإحدى مؤسسات التنمية الحكومية من أجل شراء معدات لمحطة لتوليد الكهرباء، وقرض بقيمة 2.5 مليون دولار لاستيراد آلات زراعية.
وعرف التقرير السنوي الثالث للبنك نهجه تجاه التنمية بالنهج الذي ينطوي على "رغبة في مساعدة الأعضاء على تحليل مشكلاتهم التنموية، والعمل معهم على رسم الخطوط العريضة التي يمكن من خلالها الارتقاء بتنميتهم بأسلم طريقة وأسرعها، واختيار المشاريع الأقرب إلى تحقيق ذلك الارتقاء لتقديم التمويل الأولي لها، كلما أمكن ذلك". وقدم البنك – سيرا على هذا النهج – 68 قرضا على مدى السنوات الخمس التالية؛ وجه 64 قرضا منها – بلغ متوسط كل منها 14 مليون دولار– إلى المشاريع التي من شأنها الارتقاء بأولويات البلدان النامية "بأسلم طريقة وأسرعها". وفي غضون نصف عقد فقط، بين عامي 1947 و 1952، تحول تركيز البنك الدولي من إعادة إعمار أوروبا إلى تعزيز الفرص لشعوب البلدان النامية.

إنشرها