Author

تفعيل الابتكار .. ودور التعليم

|

يشترك الابتكار مع الإبداع في أنه ينطلق من فكرة، على أن تستند هذه الفكرة إلى مبادئ علمية سليمة، وأساس منطقي مقنع، وأن تلقى الدراسة الكافية لتأهيلها في المجال، الذي تنتمي إليه. لكن الابتكار يتميز عن الإبداع في أن فكرته يجب أن تتمتع بفائدة تنموية. وليس المقصود بالفائدة التنموية هنا هو بالضرورة الجانب الاقتصادي، بل ربما يكون لهذه الفائدة جانب اجتماعي أو إنساني. وقد ناقشنا هذا الأمر في المقال السابق، وذكرنا فيه أن معطيات الابتكار لا تقدم بالضرورة تميزا تقنيا، بل قد تعطي تميزا جماليا كالابتكار الناعم، أو تحل مشكلات اجتماعية قائمة، كما في الابتكار الاجتماعي. وبينا بالإضافة إلى ذلك أن فكرة الابتكار لا تأتي بالضرورة من مصدر فردي، بل قد يكون لها عدة مصادر، وربما بمشاركة عدد كبير منهم، كما هو الحال في الابتكار المفتوح.


تمثل الأفكار التنموية، التي ينطلق منها الابتكار المحرك المطلوب لمسيرة المستقبل، خصوصا في هذا العصر، الذي يشهد تنافسا غير مسبوق، ليس في التعلم واستيعاب المعرفة فقط، بل في إطلاق أفكار تنموية مبتكرة وتوظيفها والاستفادة منها اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا. والإنسان بالطبع هو مصدر إطلاق مثل هذه الأفكار، وهو أيضا القادر على توظيفها والعمل على تحقيق التنمية المنشودة. وهناك عاملان رئيسان ومتكاملان يؤثران في الإنسان في هذا المجال، فيدفعانه إلى ذلك أو يبعدانه عنه. ويتلخص هذان العاملان في إعداد الإنسان المفكر والمدرك لمتطلبات الابتكار وتحديات التنمية، أي بناء مصدر الابتكار من جهة؛ وتوفير البيئة الممكنة للتفكير واستيعاب الأفكار الواعدة وتفعيلها والاستفادة منها، أي تمكين هذا المصدر من جهة أخرى. وسنركز في هذا المقال على دور التعليم في تفعيل العامل الأول، أي في بناء المصدر المنشود.


يشهد التعليم حول العالم مستجدات من معطيات العصر ومن متطلباته تقرع، بابه تريد إخراجه من صندوقه، وأسلوبه التقليدي الذي اعتاد عليه عبر السنين، كي يراها ويستوعب إمكاناتها ومتطلباتها، ويسعى إلى الاستجابة لها والاستفادة منها. صحيح أن التعليم عبر الزمن كان وراء بناء حضارات الإنسان في كل مكان، لكن الصحيح أيضا هو أن على التعليم أن يستجيب للمتغيرات كي يكون أكثر كفاءة وفاعلية في تأثيره في حياة الناس والمجتمعات.


إذا نظرنا إلى المتغيرات التي تقرع باب التعليم، من جانب معطيات العصر، نرى أن العالم السيبراني وما يقود إليه من تحول رقمي بين أبرز هذه المعطيات التي تقرع هذا الباب وتسعى إلى التأثير فيه، عبر توفير وسائل جديدة يمكن أن تزيد من كفاءته وتعزز فاعليته وتوسع انتشاره. فالعالم السيبراني يسمح ليس فقط بنشر الكتب التعليمية إلكترونيا والحد من الطباعة والتوفير في الحاجة إلى الورق، وإنما يسمح أيضا بإعداد المحاضرات المواكبة لمناهج التعليم إلكترونيا، وبالصوت والصورة، وعبر المواقع الإلكترونية والإنترنت.

 

وإذا كان مؤلفو الكتب عادة يمثلون نخبة المعلمين، فإن معدي محاضرات المناهج سيكونون أيضا من هذه النخبة. والآن، إذا نظرنا إلى المتغيرات، التي تقرع باب التعليم، من جانب متطلبات العصر، نرى بين أهمها التنافس المعرفي، الذي ينشط الحاجة إلى الابتكار اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا، إضافة إلى مهارات مختلفة أخرى تتزايد مع التقدم المعرفي الذي يشهده العصر. وإذا كان التعليم التقليدي وسيلة لتزويد الطالب بالمعرفة والمهارات الأساسية وإعداده للحياة وللعمل المهني، فإن على التعليم المنشود أن يهتم أيضا بإعداد الطالب للتفكير وطرح الأفكار الجديدة والمتجددة ومناقشتها ونقدها وتأهيلها للابتكار والإسهام في التنمية وتعزيز استدامتها.

 

على أساس ما سبق، يمكن القول إن وجود الكتب والمحاضرات إلكترونيا على مواقع الإنترنت يجعل نشر المعرفة والمهارات الأساسية المطلوبة للحياة والعمل المهني ميسرا بكفاءة وفاعلية على نطاق واسع. وبذلك يؤدي التعليم جزءا مهما من وظيفته التقليدية. ويبقى على التعليم أن يهتم بمهارات العصر وبالتفكير وطرح الأفكار الجديدة والمتجددة. وهنا يأتي الدور المستقبلي الأهم لمعلمي المدارس. فطالما أن الكتب والمحاضرات متوافرة إلكترونيا، فهي تزيح بذلك عبأ كبيرا عن كاهل المدرس، ويبقى عليه أن يدرب طلابه على المهارات، التي يحتاج إليها العصر، وعلى التفكير والابتكار والتوجه نحو التنمية. وبذلك لا يصبح الطالب مؤهلا معرفيا فقط، وإنما يصبح مؤهلا فكريا أيضا لتوليد المعرفة الجديدة القادرة على الإسهام والتنمية المنشودة، والاستجابة لمتطلبات العصر.


ولعلنا نحاول هنا وضع ملاحظتين مهمتين بشأن التغيرات المطلوبة، كي تحقق الاستجابة لمعطيات العصر ومتطلبات أهدافها المنشودة. تهتم الملاحظة الأولى بالعلاقة بين المعلم والطالب، حيث نجد أنه في بيئة التفكير والمناقشة، على المعلم أن يتعامل مع الطالب ليس فقط كمتلق للمعرفة، كما في السابق، بل كمفكر أو كمبتكر للمعرفة، وعليه أن يشجعه على ذلك، أما الملاحظة الثانية فتركز على مسألة التعلم بالتجربة والخطأ، خصوصا في إطار التفكير والابتكار. فإذا أعطى الطالب فكرة خاطئة، أو لا تقود إلى ابتكار مفيد، فيجب تشجيعه على محاولة تعديل الفكرة أو الإتيان بغيرها، دون أن يؤثر ذلك في مستوى تقييمه. فالتقييم المستمر لكل محاولات التفكير، التي يقوم بها الطالب، مع عدم تقدير فكرة التعلم بالتجربة والخطأ، يؤدي إلى إحجام الطالب عن البحث عن أفكار جديدة، وبالتالي الحد من قدرته على الابتكار، وإجهاض استجابة التعليم المأمولة لمتطلبات العصر.


لا شك أن الإنسان أسير للعملية التعليمية في مراحل دراسته وإعداده للمستقبل؛ وأنه أيضا صاحب هذه العملية عندما يكون هو القائم على التدريس وإعداد الأجيال الجديدة للمستقبل. وإذا كانت متطلبات الإعداد تختلف بين عصر وآخر، فإن على الطرف المسؤول، وهو الأكثر خبرة ونضجا أن يواكب متغيرات العصر، سواء كانت معطيات أو متطلبات، ويستجيب لها في عمله تجاه الأجيال المتجددة. نحن، في هذا العصر، أمام عالم سيبراني يفرض تحولا رقميا يعطي فوائد كثيرة في شتى المجالات يجب الاستفادة منه؛ ونحن أيضا أمام تحد معرفي يطالبنا بالتفكير والابتكار من أجل تفعيل التنمية المنشودة يجب الاستجابة له.

إنشرها