FINANCIAL TIMES

«فوكسكون» .. أكبر معمل تقني يدفع ثمن الحرب التجارية

«فوكسكون» .. أكبر معمل تقني يدفع ثمن الحرب التجارية

قلة من الشركات هي التي تمثل بصورة مصغرة عصر العولمة بشكل أفضل مما تفعله شركة هون هاي، أكبر شركة لتصنيع الأجهزة الإلكترونية بعقود في العالم. صيغة النجاح لدى هذه الشركة التي تعرف باسم مجموعة فوكسكون للتكنولوجيا تشتمل على ما يلي: وجود مصانع ضخمة في الصين تدار من خلال إمدادات وفيرة من العمالة منخفضة التكلفة، والقرب من مجموعات الموردين، والاعتماد على التجارة الحرة، ووجود شهية عالمية نهمة على ما يبدو للأجهزة التي تباع في السوق العامة.
على مدى السنوات الـ15 الماضية، اقتنصت شركة فوكسكون حصة لا يستهان بها من الطلبات لتصنيع أجهزة الحاسوب الشخصية والهواتف الذكية من علامات تجارية مثل "أبل" و"ديل" و"هواوي".
جنبا إلى جنب مع شركات التصنيع المنافسة في تايوان مثل كوانتا لأجهزة الحاسوب وبيجاترونو ويسترون، تزعمت الشركة سباقا متواصلا نحو جعل عملية التصنيع أرخص ثمنا وأسرع وأكثر كفاءة.
سيكون يوما تاريخيا بالنسبة إلى شركة فوكسكون، عندما تستضيف مؤتمرا للمستثمرين للمرة الأولى على الإطلاق.
جدول الأعمال المخصص لهذا الحدث المقرر انعقاده في ضاحية تيوتشينج في تايبيه، التي تعني مدينة التراب، يتضمن التحديات الوجودية التي تلوح في الأفق بالنسبة إلى شركة هي على حد سواء أكبر شركة تجميع في العالم لهواتف الآيفون، التي تنتجها شركة أبل، وأكبر صاحب عمل من القطاع الخاص في الصين.
أول بند على جدول الأعمال سيكون شرحا للآلية التي سيتم من خلالها إدارة الشركة بعد أن يتنحى تيري جاو، إمبراطور المال الذي أسس الشركة قبل 45 عاما، من منصبه كرئيس لمجلس الإدارة ليدخل المعترك السياسي ويخوض انتخابات الترشح لمنصب رئيس تايوان.
القضية الأكبر حتى من ذلك ستتمثل في كيفية قيام شركة فوكسكون بالتخطيط لمواجهة نوعين من التحديات المنفصلة من السياسة والذكاء الاصطناعي، اللذين من المحتمل أن يتسببا في تحطيم نموذج الأعمال الخاص بمجموعة من شركات خدمات التصنيع الإلكترونية التايوانية، التي تهيمن على سلسلة توريد التكنولوجيا الاستهلاكية.
الشركة عالقة وسط الحرب التجارية المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين - بطلة العولمة لمرة واحدة الآن تعاني في الوقت الذي يبحث فيه مزيد من أعضاء إدارة ترمب المتشددين عن سبل تمكنهم من "فصل" قطاعات التكنولوجيا في البلدين. إلا أنها تحاول أيضا التأقلم مع تأثير الذكاء الاصطناعي، الذي يؤدي إلى إحداث تحول في السوق بعيدا عن الإنتاج للسوق العامة، الذي كان يغذي نموها ونحو إنتاج مواد أكبر تخصصا وتعطي هوامش أرباح أعلى.
في دلالة على المخاوف المتعلقة بتلك التحديات، تهاوى سعر السهم في شركة هون هاي بنسبة 51 في المائة على مدى العامين الماضيين، ليصل إلى 71 دولارا تايوانيا. الأسبوع الماضي، حذر جاو من حدوث "تسونامي" في الاقتصاد العالمي سببه الحرب التجارية.
مع ارتفاع الرسوم الجمركية التي تفرضها الحكومة الأمريكية لتصل إلى 25 في المائة، على ما يعادل 200 مليار دولار من السلع والبضائع الصينية، وإدراج شركة هواوي لتصنيع معدات الاتصالات على القائمة السوداء الشهر الماضي، تدافع التنفيذيون في شركة التصنيع بعقود في تايوان نحو تحويل بعض الإنتاج على الأقل إلى خارج الصين.
هذه محاولة محفوفة بالصعوبات. يقول جان-فريديريك كيونتز، شريك أعلى في ماكينزي، هيئة الاستشارات: "من المستحيل إيجاد نسخة مماثلة لهذا النظام الإيكولوجي الموجود لدينا في الصين بشكل سريع.
المشكلة الأولى هي أنه ليس هنالك ما يكفي من القوة العاملة. أما المشكلة الثانية فتتمثل في شبكة الموردين- شركات تصنيع الألواح، وشركات الصب، وشركات تصنيع المكونات. إنها مشكلة كبيرة للغاية".
التغيرات التي تسبب فيها الذكاء الاصطناعي في الأسواق كانت معطلة بالقدر نفسه للصناعة. في العام الماضي، انخفضت الشحنات العالمية من الهواتف الذكية - وهو منتج يستأثر بأكثر من نصف العائدات التي تحققها شركة فوكسكون - بنسبة 4.5 في المائة لتصل إلى 1.39 مليار وحدة، وسيشهد هذا العام انخفاضا نسبته 3.1 في المائة، وفقا لشركة كاناليس، شركة مختصة ببحوث التكنولوجيا.
يعتقد الخبراء أنه حتى لو عاد النمو مرة أخرى العام المقبل، مدعوما باعتماد شبكة الجيل الخامس، إلا أن أيام الطفرة التي شهدتها الهواتف الذكية ولت إلى غير رجعة. يقول يوكاي، المؤسس المشارك لشركة أيه آي سبيتش AISpeech، وهي صينية ناشئة مختصة بميزة التعرف إلى الصوت واستثمرت فيها شركة فوكسكون: "بالنسبة للكثير من الوظائف التي يتسم بها هاتفك الذكي اليوم، سرعان ما ستفقد حاجتك إليها. بعضها ستحل محلها السماعات الذكية، وبعضها الآخر ستحل محلها أجهزة منزلية بديلة، وفوق ذلك كله بسبب التطبيقات في سيارتك. حتى إن من الممكن أن نصل إلى اليوم الذي يصبح فيه مفهوم الجهاز مفهوما قديما تماما، في الوقت الذي تتمكن فيه من التفاعل من خلال ميزة التعرف إلى الصوت أو الصور في بيئتك".
بعض قطاعات السوق الجديدة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، مثل السماعات الذكية، تنمو بشكل سريع. كما توفر التطبيقات الموجودة في صناعة السيارات والخدمات الطبية والروبوتات عائدات متزايدة.
يقول المحللون، إن تلك القطاعات صغيرة جدا وصعبة جدا من الناحية التكنولوجية، بحيث لا يمكنها السماح للشركات التايوانية، بأن تستبدل بسرعة هذا الكم من الأرباح والعائدات من خلال السلسلة الحالية من منتجات تكنولوجيا المعلومات.
يقول مانيشنيجام، رئيس بحوث التكنولوجيا الآسيوية لدى بنك كريدي سويس: "في الوقت الحالي، لدينا منتجات السوق العامة التي تزيد على ملياري وحدة. بعض المنتجات الجديدة ستكون بعشرات الآلاف من الوحدات. الأجهزة التي يمكن ارتداؤها سيتم إنتاجها بمئات الملايين.
لا يوجد على الساحة منتج جديد فريد في السوق العامة، لذلك سيكون هنالك اندماج بين شركات التصنيع بعقود".
المحللون يرون أن التركيز على الحجم - الاستراتيجية الوحيدة التي عززت شركة فوكسكون ونظيراتها من الشركات التايوانية خلال دورات التكنولوجيا القليلة الماضية، التي شملت الكمبيوتر المحمول والكمبيوتر اللوحي والهاتف الذكي - يجعل من الصعب عليها التأقلم الآن.
يقول محلل تكنولوجيا آخر: "بعد أن قدمت كل من شركات إتش بي، وآي بي إم، وديل، وأبل نفسها كبدائل مقترحة لإنتاج أحجام ضخمة من المنتجات، لم تبدأ الشركات التايوانية قط فعليا بتنويع الإنتاج لتتحول إلى منتجات أخرى بحجم أقل، لكن بهوامش ربح أعلى بكثير وبعتبة تكنولوجية أعلى بكثير.
في الواقع هذه الشركات جميعا فوتت الأمر بشكل جماعي تماما. لذلك، أصبح الأمر الآن أكثر تعقيدا بكثير لأنه في المجالات المتخصصة التي يكون فيها نمو، لن تكون صناعة خدمات التصنيع الإلكترونية التايوانية هي المستفيدة من هذه الميزة".
يعتقد بعض الخبراء أن بعض شركات التصنيع التعاقدي في المنطقة التي فقدت كثيرا من أعمالها في مجال تكنولوجيا المعلومات لمصلحة شركة فوكسكون قبل عقد من الزمان، قد ينتهي بها الأمر إلى أن تكون أكبر المستفيدين من قطاعات السوق الجديدة. وهم يذكرون، على سبيل المثال، أسماء شركات مثل فلكسترونيكس ومقرها سنغافورة، وكل منهما لديها أعمال كبيرة تصنع الأجهزة الإلكترونية للقطاع الطبي.
يقول ليو روفينج، نائب رئيس شركة أيه آي سبيتش AISpeech، الذي يعمل مع الشركات المصنعة لتطوير حلول الأجهزة لتطبيقات التعرف على الصوت، إن شركات خدمات التصنيع الإلكترونية التقليدية غائبة في الغالب عن هذه المجالات الجديدة: "الشركات المصنعة للأجهزة التي تصنع مكبرات صوت ذكية غالبا ما تكون شركات كانت تصنع من قبل مكبرات صوت تقليدية، مثل "تي سي إل" TCL. هذه شركات صينية بشكل رئيس، وليست شركات خدمات التصنيع الإلكترونية التايوانية الكبيرة. في السلع البيضاء، هي الشركات المصنعة للسلع البيضاء التقليدية".
أما بالنسبة للإلكترونيات داخل السيارة، وهي قطاع في السوق به حواجز فنية أعلى أمام الدخول فيه، وكذلك هوامش ربح أعلى بكثير.
كثير من شركات التصنيع التعاقدي التايوانية الكبرى تعاني في سبيل مواجهة هذه التحديات - في وقت من المرجح أن يضع الاحتكاك الأمريكي- الصيني ضغوطا إضافية على هوامش الربح، ويجبر البعض على إعادة التفكير في الطريقة التي ينظمون بها أعمالهم.
شركة بيجاترون، أقرب منافسي شركة فوكسكون، نقلت بعض الإنتاج من الصين إلى إندونيسيا. الشركة تبني مصنعا في فيتنام وتتطلع إلى الإنتاج في الهند. يحذر التنفيذيون من أن مثل هذه البصمة الممتدة على آلاف الكيلومترات وعبر الحدود ستغير على نحو لا يستهان به هيكل تكلفة الإنتاج.
يقول تونج تسو- هسين، رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة بيجاترون، إنه لا يمكن لأي بلد آخر أن يقدم بيئة استثمارية جذابة على النحو الذي كانت الصين قادرة على فعله في الماضي، مع وجود قوة عاملة ضخمة منحت الشركات أعداد الموظفين بمئات الآلاف، ومع سياسات متسقة مدعومة من قبل عدة أجيال من المسؤولين ومجموعة واسعة من الشركات المصنعة للمكونات.
ويقول: "هذا لن يظهر في أي مكان آخر مرة أخرى. أين سننتقل بعد ذلك؟ لا أدري. أم أنه لم يعد من الرائج الاستمرار في الانتقال، وستعمل الأتمتة والروبوتات على تغيير وجه التصنيع بشكل جذري؟"
شهدت ويسترون، ثالث أكبر شركة لتجميع أجهزة آيفون من شركة أبل، انخفاضا في مساهمة أعمال الهواتف الذكية بنحو 15 في المائة من الإيرادات في الربع الأخير من عام 2018، أي أقل من نصف ما كانت عليه قبل عام. قال سايمون لين، رئيس مجلس إدارة الشركة، في آذار (مارس) الماضي، إنه يتوقع استقرار إيرادات الهواتف الذكية عند هذا المستوى الأدنى، ولكن في الوقت نفسه تبني الشركة مصنعا للهواتف الذكية في الهند.
وبسبب الضغط من قبل المستثمرين حول سبب عدم قيام شركة ويسترون بالتخلص التدريجي من أعمالها المتعلقة بالهواتف الذكية تماما، إذا كانت تمثل عائقا في الأرباح، قال لين، إن الشركة ستكون حذرة للغاية بخصوص أي استثمار رأسمالي إضافي. يقول أحد المستثمرين في شركة ويسترون: "إنهم مثل الغزلان المرتعبة من الأضواء الساطعة". لا ينطبق الشيء نفسه على شركة فوكسكون. كان جاو يعيد اختراع إمبراطوريته التجارية بشكل مستمر على مر السنين. بعد أن بدأ في صنع أجزاء بلاستيكية لأجهزة التلفزيون، لم يقم فحسب بالتنويع والعمل في وحدات التحكم في الألعاب وأجهزة الكمبيوتر الشخصية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة والهواتف الذكية، بل توسع أيضا في تصنيع مكونات ذات هامش أعلى. شركة فوكسكون أقدمت أيضا على عدة غزوات في إلكترونيات السيارات منذ أكثر من عقد من الزمان.
بدأ جاو العمل بجدية على الأتمتة قبل عدة سنوات. صدمته سلسلة من حالات الانتحار بين العمال المهاجرين الشباب في مدن المصانع الشاسعة في الصين، وتعهد في عام 2011 بتركيب ما يصل إلى مليون روبوت في مصانع فوكسكون في غضون بضع سنوات.
على الرغم من أن الشركة لا تزال بعيدة كثيرا عن تحقيق هذا الهدف - حيث يقدر المحللون أن عدد الروبوتات في مصانع فوكسكون في الصين هو أقل من عشرين ألف جهاز – جهود الأتمتة الأولى التي قام بها جاو هي جزء من خطة أكبر بكثير. من خلال شركة فوكسكون للإنترنت الصناعي، وهي تابعة أدرجت في شنغهاي العام الماضي، تحاول المجموعة دمج الروبوتات وتحليلات البيانات وإنترنت الأشياء بطريقة تسمح بمكاسب ثورية في الكفاءة في مصانعها ويمكنها أيضا بيعها للآخرين.
تطلق الشركة على خطوط الإنتاج هذه "مصانع الأنوار المطفأة" - وهو مصطلح يعني أن الشركة لم تعد بحاجة إلى الاعتماد على البشر للقلق، بشأن مشكلات مثل استهلاك الأدوات أو الحوادث على الخط.
تم إدراج أحد خطوط الإنتاج التي يكون هذا المفهوم فيها عند أعلى مستويات التقدم، في مصنع فوكسكون الكبير في شنزن، في قائمة المنتدى الاقتصادي العالمي لمصانع "المنارة" التي تبرز الاتجاهات المستقبلية في التصنيع.
خبراء الصناعة يقولون، إن منارة جاو لا تزيد على كونها مجرد تجربة. يقول أحد المحللين: "معظم إيرادات فوكسكون للإنترنت الصناعي لا تزال عملية التجميع التقليدية ذات العمالة الكثيفة".
يريد تنفيذي سابق في شركة فوكسكون استخدام التكنولوجيات الجديدة لتقليل المخزون إلى الصفر. ويضيف أن التقدم كان بطيئا للغاية لأن العملاء سيحتاجون إلى مشاركة البيانات الحساسة بشأن الطلب من العملاء - الأمر الذي يحجمون عن فعله جميعا.
للمبادرة أيضا جانب ثانوي: تم إدراج شركة فوكسكون للإنترنت الصناعي كشركة رائدة في إطار صنع في الصين عام 2025، وهي خطة الحكومة الصينية للتعزيز السريع لصناعة تكنولوجيا صينية. في هذا السياق، سرعت الحكومة الصينية الاكتتاب العام الأولي للشركة في بورصة شانغهاي العام الماضي.
يقول أحد المصرفيين التايوانيين: "نعتقد أنه كان على تيري جاو أن يعد القادة الصينيين ببعض الأشياء في المقابل، بما في ذلك المساعدة على دفع صناعة التكنولوجيا المحلية لديهم".
مثل هذه التصورات ليست مفيدة في ظل تصاعد التكنولوجيا والحرب التجارية بين بكين وواشنطن. منذ الآن باتت "فوكسكون" في خط النار بشكل مباشر أكثر من معظم الشركات الأخرى، لأنه لم يقم أحد آخر بتقديم رهان أكبر على الصين.
نحو 90 في المائة من موظفي المجموعة الذين يزيد عددهم على مليون موظف يعملون في الصين. والشركة هي أكبر مصدر للصين، حيث تمثل 4.2 في المائة من إجمالي صادرات البلاد العام الماضي. يبدو جاو مدركا تماما للمخاطر. في خطاباته الأخيرة، تذبذب بين الإشارة إلى أن صناعة التكنولوجيا في تايوان، تتوسط بين الصين والولايات المتحدة، وحث الصين على تنظيم شركاتها "للذهاب إلى أمريكا وإعادة بناء سلسلة التوريد".
تلك كانت مجرد خطابات للاستهلاك المحلي في الحملة الانتخابية. من المحتمل أن يطالب مستثمرو شركة فوكسكون بأن يتخذ خلفاء جاو موقفا أوضح.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES