Author

الجامعات بين الابتكار وإعادة ثقافتها

|
مختص في التمويل والتنظيم وأكاديمي


من الأخبار التي سعدنا بها أخيرا حصول جامعة الملك فهد للبترول والمعادن على المركز الرابع ضمن أفضل 100 جامعة على مستوى العالم من حيث عدد براءات الاختراع لعام 2018، وكذلك حصول جامعة الملك سعود على المركز 25 في التصنيف نفسه وفقا لتقرير الأكاديمية الأمريكية للمخترعين National Academy of Inventors NAI، وبالشراكة مع اتحاد أصحاب الملكية الفكرية IPO Intellectual Property Owners Association. وعلى الرغم من حداثة عمر NAI التي تأسست عام 2009 بمبادرة من نائب رئيس قسم الأبحاث في جامعة جنوب فلوريدا إلا أنه خلال فترة وجيزة انضم لها أكثر من 200 معهد وجامعة في الولايات المتحدة وخارجها.
المطلع على الهيكل التنظيمي لوزارة التعليم يدرك اهتمامها ودعمها للبحث والتطوير والابتكار. فمثلا يعمل مكتب البحث والتطوير في الوزارة على دفع عجلة التقدم في مجال البحوث التطبيقية عالية التأثير، علاوة على دوره كأحد الممكنات نحو دخول خمس جامعات سعودية ضمن أفضل 200 جامعة على مستوى العالم وتحقيق المركز العاشر في التنافسية العالمية، وقد رصد مبلغ ستة مليارات ريال كميزانية سخية ومحفزة للوصول لهذه المؤشرات الطموحة. هذا الطموح العالي يتناغم مع الصورة الذهنية التي رسمها الأمير محمد بن سلمان مهندس رؤية المملكة والسعودية الحديثة عندما ذكر أن "طموحنا عنان السماء" وفي تصريحه الآخر لوكالة بلومبيرج من أن "سقف طموحنا مرتفع".
لا شك أن وزارة التعليم تسعى لأن تتحول الجامعات من مصدر استهلاك لميزانية الدولة إلى منارات مشرقة في تحقيق الاقتصاد المعرفي. لذا عمدت وزارة التعليم في حلتها الجديدة على دعم الأبحاث ذات الأولوية الوطنية، سواء تلك الأبحاث التطبيقية المرتبطة بتحلية المياه والطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني وإدارة الحشود، أو حتى الأبحاث الاجتماعية المرتبطة بالأسرة وتمكين دور المرأة في المجتمع.
المطلع على تصريحات الدكتور حمد آل الشيخ وزير التعليم يدرك أنها تصب في الاتجاه نفسه، فقد ذكر أن "قيمة الجامعات تكون بحجم تأثيرها في مجتمعها وحل مشكلاته والرفع من المستوى الاقتصادي والتنموي للوطن". لا شك أن وزارة التعليم، مشكورة، أحدثت نقلة نوعية أخيرا في هيكلتها الإدارية لكنها لا تزال تحتاج إلى جهود إضافية من أجل تعزيز بيئة الابتكار والإبداع داخل الجامعات من جهة، وتقليل إدمان الجامعات من الاعتماد على الميزانيات الحكومية من جهة أخرى. فبعض مسؤولي الجامعات اكتسب مهارة عالية في كيفية اقتطاع ميزانيات عالية أكثر من حاجتهم الفعلية لها. ولعل تراجيديا بعض الكراسي البحثية التي تم توظيفها في غير مسارها لا تزال عالقة في أذهان كثير من المهتمين بالشأن الجامعي.
لذا فمن أجل أن تسهم وزارة التعليم في دعم الابتكار والإبداع وتحقيق التنوع الاقتصادي بما يسهم في تقليل الإدمان النفطي حسب وصف ولي العهد - حفظه الله -، فنحن في حاجة إلى إحداث ما يعرف بـ"البردايم شفت" في الجامعات paradigm shift من القدرة على الأخذ إلى القدرة على المشاركة في العطاء بحيث تنتقل من جهات حكومية تسعى للحصول على قطعة كبيرة من الجبن وصرفها بصورة صحيحة أو غير صحيحة إلى منارات لتخريج كفاءات وطنية تسهم في صناعة الجبن وتسويقه بمهنية عالية.
أعتقد أن من أهم التحديات الحالية التي توجهها وزارة التعليم وقيادتها الطموحة كيفية إحداث هذا "البردايم شفت" في ثقافة عمل الجامعات وإحداث تغيير جوهري في متطلبات الصفات القيادية للجامعات، فالوزارة لديها الممكنات اللازمة لزيادة الاهتمام بالبحث والتطوير والابتكار، لكن تنفيذ هذه الممكنات يتطلب إحداث هيكلة حقيقية في آلية عمل الجامعات من أجل بناء لبنة صلبة في إدارة مجال الابتكار والإبداع. فمثلا من المؤسف أن النظام الحالي للجامعات يدعم أن يكون تعيين عمداء أو وكلاء الكليات، فضلا عن رؤساء الأقسام ممن ليست لديهم الخبرة الإدارية، بل أصبح من الممارسات الطبيعية في الجامعات أن يتم تعيين عمداء الكليات ممن لم يمضوا على حصولهم على الدكتوراه إلا بضعة أشهر، فضلا عن أن تكون لديهم الخبرة الإدارية اللازمة لفهم تحديات الجامعات ومتطلباتها في المرحلة المقبلة، بل حتى على مستوى وكلاء الجامعات، فنظام الجامعات الحالي وحتى المسودة التي تم تداولها لا يشترط عند تعيين وكلاء الجامعات أن تكون لديهم الخبرة الإدارية بل يشترط أن تكون لديهم خبرة بحثية لمدة أربع سنوات تؤهلهم للترقية لرتبة أستاذ مشارك، بمعنى أن الخبرة الإدارية ليست لها قيمة في التعيينات الإدارية في الجامعات على جميع المستويات. هذه الحقيقة عززت لدى بعض الأكاديميين الاعتقاد أنه بمجرد حصولهم على الدكتوراه فقد أصبحت لديهم العصا السحرية التي تعالج كل المشكلات وتصل بهم لأعلى المناصب القيادية في الجامعات.
لذا فمن أجل أن تحقق الجامعات المشاركة في صنع الجبن وبدء مرحلة الاقتصاد المعرفي ودعم الابتكار والإبداع، فلابد من إحداث نقلة نوعية في ثقافة عمل الجامعات ونمط تفكيرها. ففي السابق وبسبب كون الحكومة هي المسؤولة عن توفير المصدر المالي لها لم تكن الجامعات تكترث كثيرا بآليات اختيار كفاءتها البشرية فضلا عن أن تكون لديها المحفزات اللازمة لإحداث نقلة نوعية في إدارة مواردها المالية والبشرية. هذه الحقيقة شجعت بعض الجامعات على إعطاء الأولوية لجوانب أقل ما يقال عنها أنها لا يمكنها تحقيق طموح عنان السماء والرؤية الطموحة التي من المفترض أن تكون أساسا عند كتابة رؤية أي جامعة من جامعاتنا.
لذا ستكون جزءا من التحدي لدى وزارة التعليم كيفية تغيير ثقافة عمل الجامعات ومتطلباتها القيادية، وهي مهمة ليست بالسهلة لأن تغيير ثقافة أي منشأة مهمة تتطلب جهودا جبارة فضلا عن أن تكون هذه الجهة أكاديمية. الخلاصة أن المرحلة المقبلة تتطلب من الجامعات تبني الكفاءات القادرة على تحويل التحديات التي يواجهها بلدنا إلى فرص للإبداع والتجديد. بختصار نحن أمام مرحلة تتطلب إعادة آلية اختيار القيادات بحيث تتوافق مع ما قاله ستيف جوبز "من غير المنطقي أن نعين الأذكياء ثم نخبرهم ما عليهم أن يفعلوا. نحن نوظف الأذكياء لكي يخبرونا بما علينا أن نفعله".

إنشرها