FINANCIAL TIMES

النمو يضيء أخيرا الزوايا المعتمة في الاقتصاد

النمو يضيء أخيرا الزوايا المعتمة
في الاقتصاد

عندما انتقلت إلى الولايات المتحدة قبل ما يزيد قليلا على عقد، كان الاقتصاد في حالة ركود وكانت البطالة تتجه نحو معدل بأرقام من خانتين. بعد وصولي بفترة وجيزة، الحديث عن المخللات والبيض جعلني أدرك أن الوضع كان أسوأ مما يبدو.
شرحت لي امرأة من سياتل كيف كانت تلك هي الأطعمة الوحيدة المتبقية في مطبخها لأنها لم تجد سوى القليل من العمل. ومع ذلك، فإن أشخاصا مثلها لم يظهروا ضمن أرقام البطالة الرسمية. ولأنها كانت تحاول جمع المال لبضع ساعات في الأسبوع، كان من الممكن العثور عليها في مقياس مهمل يعرف بـ U6 يجمع بين العاطلين عن العمل والباحثين عن عمل، اليائسين الذين يعملون "بدوام جزئي لأسباب اقتصادية". عندما بلغ معدل البطالة 10 في المائة في وقت لاحق من ذلك العام، معدل المقياس U6 تجاوز 17 في المائة.
كان ذلك درسا في مقدار الألم الذي يمكن إخفاؤه في سوق العمل: لا يظهر في الإحصائيات الرئيسة، لكنه عميق على أرض الواقع. يمكن أن يستمر حتى عندما تقول العناوين الرئيسة إن الاقتصاد تعافى. في أواخر عام 2016 عاد معدل البطالة في الولايات المتحدة إلى مستوى ما قبل الأزمة، لكن استغرق الأمر عاما آخر ليتراجع معدل U6. المعدل الذي يتشارك فيه أناس تراوح أعمارهم بين 25 و54 عاما في سوق العمل، وهو مقياس آخر للأسى، بدأ الآن العودة إلى مستويات ما قبل الركود.
الولايات المتحدة ليست البلد الوحيد الذي يعاني آثارا خفية من الماضي. معدلات التوظيف ارتفعت في معظم أوروبا، لكن أكثر من نصف العاملين من الشباب في منطقة اليورو يعملون بعقود مؤقتة – وهو ما يقارب مستوى قياسيا مرتفعا. في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا تبقى نسبة "الذين يعملون بدوام جزئي دون رغبتهم" أعلى بكثير مما كانت عليه قبل الأزمة. حتى في المملكة المتحدة، حيث عملت ما تسمى "معجزة الوظائف" على تقليص البطالة إلى أدنى مستوى لها منذ سبعينيات القرن الماضي، نسبة الأشخاص الذين يعملون بدوام جزئي لأنهم لا يستطيعون العثور على وظيفة بدوام كامل لا تزال أعلى مما كانت عليه في عام 2007.
من أجل هذا السبب تعد إدارة "اقتصاد مرتفع الضغط"، على حد تعبير اقتصاديين مثل جانيت ييلين، رئيسة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابقة، مهمة جدا. في الولايات المتحدة، الطلب المرتفع والمتزايد على الموظفين ساعد أخيرا على معالجة بعض هذه المشكلات الأعمق. المُدانون السابقون والعاملون المحبطون الذين خرجوا من القوة العاملة يتم استرجاعهم من قِبل أصحاب العمل اليائسين الذين لم يكونوا يرغبون في النظر إليهم قبل بضعة أعوام. الشركات التي لديها سجلات طلبيات كاملة يتعين عليها أن توظف أشخاصا غير مهرة وتدربهم، بدلا من الانتظار حتى يتقدم المرشحون المثاليون ويطرقوا أبوابها.
في المملكة المتحدة، تشتكي وكالات التوظيف المؤقت في محافلها الخاصة من الاضطرار إلى توفير شروط أفضل لجذب حتى عمال المستودعات غير المهرة نسبيا. ألقت "ستافلاين"، واحدة من أكبر وكالات التوظيف المؤقت لذوي الياقات الزرقاء، باللوم في تدهورها في الآونة الأخيرة على اتجاه جديد للشركات لتحويل الموظفين المؤقتين إلى موظفين دائمين. بدأ عدد الناس الذين يعملون بموجب "عقود مفتوحة" غير آمنة - لا تضمن حدا أدنى من ساعات العمل - تتراجع في كل فئة عمرية تقريبا.
يكمن جمال هذه العملية في كونها لا تحتاج إلى تدخل كبير من الدولة. المشكلة هي أن السياسيين لا يستطيعون مساعدة أنفسهم وسيتدخلون على أية حال. بدأ ترمب في شن حرب تجارية على الصين، جزئيا بحجة تعزيز حظوظ عمال أمريكا ذوي الياقات الزرقاء. وتهدد التداعيات بتعطيل سوق العمل مثلما عملت على تحسنها. وتظهر أحدث البيانات تباطؤ استحداث فرص العمل بشكل حاد في أيار (مايو) بسبب ضعف ثقة الشركات. في المصانع - القطاع ذاته الذي يقول الرئيس الأمريكي إنه يريد مساعدته – يسير نمو فرص العمل فيه نحو طريق مسدود.
في المملكة المتحدة، كان الدافع وراء دعم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى حد ما هو الاعتقاد بأنه قد يساعد العمال المكافحين في البلاد. جادل كثيرون بأن كبح الهجرة غير المحدودة من الاتحاد الأوروبي قد يجبر أرباب العمل على بذل مزيد من الجهد لجذب موظفي المملكة المتحدة والاحتفاظ بهم. إنها ليست فكرة غريبة. مثال على ذلك تقول "ستافلاين" إن أحد أسباب نقل الشركات للعمال من العقود المؤقتة إلى العقود الدائمة هو خوفهم من أزمة العمل المرتبطة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
تظهر بيانات رسمية منشورة يوم الثلاثاء أن سوق العمل في المملكة المتحدة لا تزال مزدهرة في الوقت الحالي. لكن الفوائد من شح اليد العاملة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ستقل بسرعة من جراء تراجع شديد في الطلب. وهذا بالضبط ما يعبث به عديد من المرشحين لرئاسة الوزراء عندما يقولون صراحة إنهم سيغادرون الاتحاد الأوروبي في تشرين الأول (أكتوبر) دون التوصل إلى اتفاق.
بعد عقد من أزمة 2008، بدأ الاقتصاد أخيرا في علاج بعض من أعمق الجروح التي تسببت فيها الأزمة. إذا عملنا على إخماد الانتعاش الآن – تماما في الوقت الذي بدأ يصل فيه إلى العاملين الذين هم في أشد الحاجة إليه - فسيكون ذلك بمنزلة خيانة للأشخاص الذين اضطروا فعلا إلى الانتظار فترة أطول من الحد اللازم.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES