Author

ماي تخرج وبريطانيا في الاتحاد

|
كاتب اقتصادي [email protected]


"استقالة تيريزا ماي عمل شجاع، وعلى بريطانيا إعلان موقفها عاجلا بشأن خروجها من الاتحاد"
إيمانويل ماكرون، رئيس فرنسا

كان يوم الجمعة الماضي آخر يوم لتيريزا ماي زعيمة لحزب المحافظين الحاكم، لكنها ستبقى رئيسة لوزراء بريطانيا حتى أواخر الشهر المقبل، وهي الفترة التي يجب على الحزب اختيار زعيم جديد له، سيصبح تلقائيا رئيسا للوزراء. السباق على احتلال موقع ماي بدأ في الواقع حتى قبل أن تعلن نيتها الاستقالة، شخصيات نافذة في هذا الحزب عملت قبل الاستقالة بأشهر على تجريدها من قوتها التنفيذية، إلى درجة أنها بلغت حدا لا تستطيع معه التحكم في حكومتها نفسها التي من المفترض أن تكون الحصن المضمون لها، ليس كل هذه الشخصيات تريد الوصول إلى زعامة الحزب، لكنها كلها ترغب في خروج ماي من الحكم والزعامة، قبل استحقاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. من الصعب العثور على "إرث" تركته تيريزا ماي في البلاد. كانت "كغيرها من الزعماء السياسيين" تسعى إلى تحقيق شيء يحسب لتاريخها، لكنها خرجت في مشهد ليس جميلا، يذكّر إلى حد بعيد بالحالة التي خرجت بها رئيسة الوزراء الراحلة مارجريت تاتشر. هذه الأخيرة وصفت يومها الأخير في الحكم، بأنه شهد "انقلابا أبيض عليها" من أركان حزبها. الفارق بين الزعيمتين، أن خروج ماي من الزعامة كان أشد إهانة من خروج تاتشر. الزعيمة الراحلة كانت تملك صنع القرار حتى الساعات الأخيرة لها في السلطة، بينما تيريزا ماي جرِّدت من أدوات الصناعة هذه، بما في ذلك القرار الأكثر أهمية ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. لم تعد ماي تملك كلمة واحدة في هذا الشأن الخطير.
ليس مهما الآن المقارنة بين أول امرأتين حكمتا بريطانيا. فالفارق كبير ولا سيما أن ماي تحكم بأقلية، وخسرت الانتخابات العامة بعد أسابيع من وصولها إلى زعامة الحزب خلفا لسلفها ديفيد كاميرون الذي يحمّله أنصار أوروبا مسؤولية المصيبة الناجمة عن مسألة خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي. علما بأن الفارق كبير في نوعية الزعامة بين ماي وكاميرون. الأخير استطاع أن يقبض بجدارة على الزعامة، بينما ظلت زعامة خليفته مهزوزة حتى آخر ساعة لها. المهم الآن ما تركته زعيمة المحافظين المستقيلة على الساحة. هو ليس إلا فوضى شبهها البعض بالمصيبة، ووصفها البعض الآخر بأنها الأسوأ منذ انتهاء الحرب الثانية. فما استطاعت ماي أن تحقق شيئا عمليا "يحسب لها" على الساحة المحلية من ناحية الاقتصاد والخدمات وغيرها، ولا دخلت التاريخ زعيمة نجحت في إخراج بلادها من الاتحاد الأوروبي بأقل الأضرار الممكنة. لا بد من التذكير هنا، بأن تيريزا ماي أجبرت على الاستقالة بسبب "بريكست" أو الخروج من الاتحاد، والحق أنها لم تستطع الالتفات إلى أي قضية محلية أخرى طوال السنوات الثلاث التي قضتها في الحكم، لماذا؟ لأن "بريكست" كان المسألة الوحيدة المطروحة، وهي المسألة التي لم تضرب أركان الأحزاب البريطانية، بل صعقت المجتمع البريطاني نفسه، عبر تقسيمه بين مؤيد لأوروبا ورافض لها، بين من يرغب في علاقات وطيدة مع القارة الأوروبية في أعقاب الخروج ومن يريد الخروج بأي صورة حتى لو كانت دون اتفاق، بين جيل الكبار الذين لم يهتموا بمستقبل الصغار وجيل الشباب الذين وجدوا أن مستقبلهم لا بد أن يكون ضمن الاتحاد الأوروبي، وأنهم أوروبيون.
تيريزا ماي "ببساطة" لم تفعل شيئا على هذا الصعيد التاريخي، ولو أردنا أن نكون منصفين، لا بد من القول إنها لم تستطع فعل شيء؛ فالقيود التي ربطها بها حزبها من خلال كتلة متعاظمة من الانفصاليين، كانت السبب الأول لإخفاقها، وهؤلاء الانفصاليون ما زالوا يسيطرون على الحزب بصورة أو بأخرى، بل من المرجح أن يأتي أحد منهم خلفا لتيريزا ماي، وهذا يعد عند مؤيدي البقاء مصيبة لن تؤدي فقط إلى مزيد من الفوضى، بل تفتت حزب المحافظين نفسه؛ فالكتلة المقابلة للانفصالية في الحزب ليست صغيرة، دون أن ننسى أن مؤيدين تقليديين للمحافظين، صاروا من المؤيدين الأقوياء لحزب تأسس منذ أسابيع فقط اسمه "بريكست"، نعم اسمه هكذا لأن مؤسسيه يريدون الخروج حتى لو أدى الأمر إلى حرب!
المشهد السياسي العام في بريطانيا لا يشبهه آخر منذ ما بعد الحرب الثانية، في وقت يعاني فيه حزب العمال المعارض الأكبر للمحافظين أزمات بفعل زعامة ضعيفة له، بل زعامة تتحسر على انتهاء الحرب الباردة، زعامة شيوعية لم "يخبرها" أحد أن الأنظمة الشيوعية التي مرت على هذا العالم انتهت إلى الأبد، وأنها لم تترك سوى الأوهام والظلم. لهذا السبب يستطيع حزب المحافظين أن "ينعم" قليلا، لكن ليس لفترة طويلة؛ فالأمراض تضربه من الداخل، وتيريزا ماي تركته على حافة التمزق الحقيقي، ولذلك ليس غريبا أن تشهد بريطانيا تغييرا في التركيبة الحزبية التقليدية لها في السنوات القليلة المقبلة.

إنشرها